المسرح الإغريقي من الأسطورة إلى الدراما (التراجيديا) ــ فواز محمود
ما أسعدك يا بؤسي إذ يحملك معي متاهات الأخرين حيث نزف بعضنا لبعض …ربما نجد في آخر مفترق الحياة مكاناً نعيش فيه أنا… وأنت …..
إن دراسة طبيعة التراجيديا الإغريقية وتطورها تظهر بوضوح الفارق الزمني بيننا وبين التظاهرات المسرحية التي قدمت شكلها… حيث نجد من المشكوك فيه وبمعنى ما من المستحيل الوصول إلى معرفة خصائصها وطرق تعبيرها الفني بدقة، فالنصوص التي خلقها “إسخيلوس وسوفوكليس وأوريبيدس” كفيلة بأن تجعلنا ندرك عظمة هذه الظاهرة وأهميتها، فالتراجيديا ليس مظهر المنصة وحسب، بل كان له تأثير حاسم على العرض، أي على التتابع العياني للتراجيديا، بل أنها تشكل العلاقة القائمة بين العرض والجمهور، لذلك احتلت التسلية مكان الصدارة. وكثيراً ما أصبحت العلاقات مع الأيديولوجيات مشحونة باللبس والتناقض، والعلاقة بين العرض بالتراجيديا الإغريقية والجمهور تخضع لتصور الجمهور للأسطورة، وللمكان الذي احتلته الأسطورة في حياتهم، لينتهي من الإيمائية إلى الجمالية، حيث العالم الخارجي هيأته، وقد يتحول إلى خيال خلاق.
التراجيديا الإغريقية .. تستمد أصلها من الطقس، ليس فقط في الخرافات، بل في بيئتها بالذات التي تصور العلاقة القائمة داخل الطقس الذي يجسد الكائنات فوق الطبيعة والأسطورة.
إن التراجيديا القديمة ومثلها الكوميديا ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بعبادات ديونيزوس (إله الخمر وملهم طقوس الابتهاج والنشوة عند الإغريق) وديميتر (إله الطبيعة والنبات والفلاحة عند الإغريق)، يبرهن على ذلك مجرد الواقع بأنهما نشأتا وترعرعتا في التطوافات الدينية التي كانت قائمة لتكريم هذين الإلهين، فهما تتصلان بأسرار أوروفيوس وايلوزيس، إلا أننا نعثر فيهما لدى إسخيلوس والعبادات في قصائد هوميروس، فليس بوسعنا أن نعود إلى أي معطى ثابت، فالأولى اتسمت بطابع شعبي، بل رقي (عبيد).
كان الرق يشكلون الغالبية، حيث نمت هذه الطبقة بمرور الزمن، وكانت الطبقات العليا تقيم العروض للجماهير، ولم تكن محظورة على العبيد، من هنا كان دورها التاريخي، ومن هنا كانت الرواية الأسطورية، وكان المقصود إعادة صياغتها بشكل شعري تتطور من إسخيلوس إلى أوريبيدس، وتتحول تدريجياً إلى أساطير لحرب طروادة، ثم لمواجهة الفرس.
إن فرضية نشأة التراجيديا من المدحية، التي تقدم بها بعضهم، وحاربها آخرون، إذا أخذنا بعين الاعتبار التأثيرات التي مارسها مختلف الديانات المندمجة في المجتمع الإغريقي على نشأة التراجيديا، فضلاً عن ذلك، فأن دلالة العبارة الإغريقية “الديثرامب” أي المدحية ماتزال غامضة، ويؤكد كونراد زيغلر التراجيديا في عام 1899 فقد استعملت في عبادة ديونيزوس، ويدعي أرنست هوفالد في التراجيديا الإغريقية عام 1930 أنه يمكن الأخذ بفرضية نشأة التراجيديا من المدحية حتى دونما شهادة أرسطو، لأن شكل التراجيديا التاريخية يفسر فقط على أنه اشتقاق من غنائية الجوقة، ولأنه من الواضح أن الغناء في الطقس الديونيزي يسمى المدحية، وهو يحل محل مدحية العبادة.
المدحية والتراجيديا هما من طبيعة واحدة، لأنهما منبثقتان من روحانية واحدة، ومن ديانة واحدة، انتقلت من الشرق والجزر نحو اليونان، فأن تأكيد أرنست هوفالد يفتقر فيما يبدو إلى أساس واف لموافقة أولزينيخ فيلا موفيتش، عندما يؤكد المدخل إلى التراجيديا الإغريقية عام 1912. إزاء كل ذلك يبدو أن القول بأن التراجيديا اشتقت من المدحية لا يقدم دعماً يذكر، لاسيما أن هوبير يبنينز روز يرى في مؤلفه الموجز في الأدب الإغريقي عام 1934، أن أرسطو لا يفسر كيف عساه تم الانتقال من المدحية إلى التراجيديا، ويتبنى هذا الموقف ماريو أونترستنايز في نشأة التراجيديا والتراجيدي عام 1940، إذ يرى أن التراجيديا الإغريقية نشأت في مناخ التدين المتوسطى الحار، والبدائي من التماس بالحضارات ما قبل الهيلينية في حوض بحر إيجة، ويعود الحديث مع أونترشتايز إلى المقدمات التاريخية والأسطورية والدينية على ظهور واقعة ذات قيمة ثقافية وجمالية.
من الطبيعي أن يكون فن التراجيديين العظام هو قبل كل شيء ثمرة التطور العميق الاجتماعي والديمقراطي الذي حدث في أثينا، فلقد حلت شيئاً فشيئاً، أنسته الأسطورة محل تدينها المفرط، وخلق الرواية الملحمية والممثل المسرحي، باعتبار المسرح هو المكان الذي تتجلى فيه أكثر مشاركات المواطنين مباشرة، ويتحقق شيئاً فشيئاً بين الأسطورة وضمير المواطن مباشرة، كما يتحقق التطابق بين الأسطورة وضمير يتنبه للمهام الاجتماعية الواقعية ومواجهته.
فن بناء المسرح الإغريقي
قبل أن نأخذ بالتراجيديا والكوميديات الإغريقية، علينا تبيان البنية التقنية وتنظيم التمثيليات حتى تتضح أشكالها ووظيفتها المميزة لذلك العرض.
كان العرض في بلاد الإغريق يتخذ في آن واحد شكل احتفال ديني وتظاهرة شعبية، فكان يحتفظ بالطابع القدسي للأعياد الديونيزية، مضيفاً إليه الشاعرية من تراكمات ثقافية وشعبية، وأعادت تصور العروض على أساس أثري، فإن العناصر التي يمكننا اعتبارها مستقاة من مشاهد يتليفوس لأسخيلوس، والتي رسمت على كوب محفوظ في متحف بوسطن، لتلقي لنا على نقاط غامضة، حيث مر البناء المسرحي الإغريقي بمراحل كثيرة من بناء خشبي إلى البناء الحجري.
كانت الأبنية الأولى قد شيدت بحسب تصميم منحرف، ليحل محله فيما بعد الشكل الدائري المعروف عالمياً.
أقسام المسرح الرئيسية
1ـ المنصة: التي تحوي العناصر المسرحية.
2ـ مقدمة المسرح: استقبال الممثلين أثناء قيامهم بأدوارهم.
3ـ الأوركسترا: المجال الذي تحدد الصفوف الأولى من المدرجات والمخصصة لحركة الجوقة وربما للرقصات
4ـ المسرح: الذي يستقبل المشاهدين، ويقوم وسط الأوركسترا مذبحة الآلهة التي تتخذ الجوقة مكانها حوله، وتحد هذه المساحة على جانبيها فتحتان يدلف منها أفراد الجوقة، وتمتد الحلبة فوق منصة ذات أحجام لا يستهان بها. ففي سيراقوزا تبلغ 22م طولاً و3م عمقاً، وكانت ترتفع عن الأوركسترا 50 سم، تتصل بها بعدة درجات وكان يحد الحلبة جانبياً جدران فيهما فتحتان تتصلان مباشرة بداخل المنصة. وهذان الفتحتان أصبحتا في روما ثابتتين، أما في اليونان فكانتا مؤقتتين، وذات طابع نفعي صرف، لهذا جرى نقاش طويل لمعرفة ما إذا كانت هاتان الفتحتان تعنيان أماكن محددة، ولكن دون الوصول إلى أي نتيجة ثابتة. ويرى فيتروف أن الفتحة الواقعة إلى يمين الممثل تعني القدوم من المدينة والأخرى من الخارج، وكان لجدار المنصة ثلاثة أبواب موزعة توزيعاً منسقاً لتسهيل الحركة بين الحلبة ومؤخرة المنصة، وتوجد تحت المنصة حفرة توضع فيها أدوات الديكور ويقوم تحت الأوركسترا نظام ممرات محفورة في الحجر يساعد الممثلين حركتهم. ولهذا نجد شهادة ممتعة ومباشرة على بنية المسرح الإغريقي في عهد سوفوكليس.