قراءة في ديوان “المهاجر” للشاعر محروس بريك ــ مروة الشريف
يحوي ديوان “المهاجر” للدكتور محروس بريك العديد من القصائد الوطنية والرومانسية الغزلية. نُهاجر معه بين أكثر من قضية، ونحن على أُهْبة الاستعداد للإبحار تحت أشرعة مركب السندباد. لنتسامر سوياً حول دلالات الغلاف والعنوان والرمز والصورة.
جاء غلاف ديوان (المهاجر) للشاعر محروس بريك في مساحة فضائية واسعة، تَنُم عن خلجات الشاعر في ما يأمل به من مُستقبل، وسفينة وعليها السندباد وقد شَد رِحاله مُبحراً بين المعلوم لا يخشى المجهول، يسير بنا في مَوج هادئ، ولكن يشوب سماءه بعض الغيوم، وكلمات قد خُطت باللون البني، ليختلط فيها الدم بالتراب الذي تَوَارى تحته الآلاف من أزهار الشباب في العالم العربي، فحولها لتربة بنية خِصبة، قد تَغَذَت بأفضل وأجود السِماد، وستنبت حَتماً أزهاراً يافعة، تَحمِل لِواء المستقبل الذي زين به الشاعر فضاءات غلافه. وقد اختار الشاعر بعض الكلمات من قصيدة “غُربة” في الديوان ليُكمِل بها رؤيته الفنية للديوان ويُفصِح عن بعض مضمونه وما يقصده من الهجرة، بسفينته التي يتنقل بها عبر البلاد العربية، لينقل صورته وصوته لكل العالم. ويثبت ويبرهن على مدلولات اختياراته للألوان في قوله: “الأرض تشرب نخب الموت من دمنا”، ليحصل الدمج بأشد روابطه بين المنظور والمقروء بل والمسموع أيضاً من خلفيته الهادئة لصوت البحر. “واغتاله اليأس في سن الثلاثين” اختيار أيضاً يُكمل الصورة واللوحة الفنية ويُعلي من الصوت المكنون في نفس الشاعر، فقد شربت الأرض حقا دماء زهور الشباب.
أما العنوان فيعرف اصطلاحًا بأنه: مجموعة من العلاقات اللسانية ترد مطلع النص لتعينه وتعلن عن فحواه وتُرغب القراء فيه. وعنوان “المُهاجِر” من أبرز سماته أنه يجذب الجمهور لفظًا وصورة، فالعنوان بحروفه المهموسة والمجهورة، يتناغم، مع خلفية يظهر فيها سندباد النص الأدبي محروس بريك، الذي يحيا بعيداً عن وطنه الذي لا يكاد يبرح فؤاده وخياله رغم ابتعاده عنه، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه، بل ونكاد نلمس قطرات دمعه بين أوراقه، فأتى العنوان مُعبراً عن حالته النفسية لما يحياه من غُربة عن أمه “الوطن” كالطفل يترقب أمه في كل حين، ترعاه تنتظر أول تمتماته باسمها، ويعاني هو جاهداً أن يُناديها بكل جوارحه حتى ينطق اسمها بكل أجراس الموسيقى المتمثلة في اللغة العربية ألا وهو حرف “الميم المضمومة”، لتصبح الرابط بينه وبينها متى شاء أن يناديها همس بصوت الميم متمنياً أن تضمه ويضمها، هكذا نادى الشاعر المرتبط بأمه مصر أول حروف عنوانه في “المُهاجر” بعد ال التعريف التي يًعرف بها نفسه، فها أنا يا مصر طِفلُكِ أحيا بكِ، وأناديكِ بكل ما أوتيت من قوة وضعف، ويأتي نَفَسُ الشاعر مهموسًا في حرف الهاء حاملًا معه كل سنين اغترابه وكأنه يريد أن يرتاح، لكنه يتحمل، وكأنه ما إن ظفر بنطق اسم أمه حتى هدأ ووضع رأسه ليستريح، وكأنه به يصرخ بألف المد، لنستشعر منه كم من المدة التي طالت في غربته عن وطنه، وكم يُعاني من الآلام في بعده عنها، وجاء هذا واضحاً في ضجة حرف الجيم، التي خرجت بكل ما فيها من قوة بعد استراحة المتعب من طول الهجرة، لا يهدأ ولا يرتاح قلقًا على وطنه، وكما أن فراق الأم صعب، كذا فراق الوطن عند محروس بريك، وهو ما كشف عنه حرف الراء الذي اختُتِمَ بها العنوان، هكذا الشاعر، فراقه لوطنه ثقيل على نفسه، فوطنه “مصر” هو المبتدَأ والمنتهَى كما يبدأ وينتهي عنوان ديوانه “المهاجر” بالميم والراء.
فهكذا قد كشف العنوان عن خلفية السندباد محروس بريك، وما تحويه نفسه منذ نعومة أظافره، يحيا بالآلام ويقاومها بالضحك، فكلاهما لا ينتهيان عنده، وقلبه وعقله دائما يضجان بما يحويان.
وهكذا يأتي عنوان ديوانه الثاني “المهاجر” كاشفاً عن رحلته وما تحويه نفسه، باعتراف مُسبق منه حين قال في مُفتتح ديوانه الأول “قبل الشتات”
وُلِدْتُ مُبتَسِمًا وفي الحَشا ألَمٌ | كَم أَسْتَعِينُ على الآلامِ بالضَّحِكِ | |
لا يَنقَضي أَلَمي لا يَنتَهِي ضَحِكِي | فالعَقلُ في شَرَكٍ والقلبُ في شَرَكِ |
**
استخدم الشاعر الرمز وهو سمة مشتركة بين غالبية الشعراء، وقد وظف الرمز بشكل جمالي منسجم، مع الاتساق الفكري الدقيق المقنع، بشكل أسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة، وعمق دلالتها وشدة تأثيرها في المتلقي.
وأول رمز استعمله الشاعر مزجه مزجاً تخطى به حدود الزمان والمكان، مُعبراً به عن حال الأمة وهو “يعقوب” في مطلع قصيدته “هجرة” حيث وظف يعقوب الذي تفرق أبناؤه، معبراً عن ضياعهم وضياع يوسف، بحال الأمة العربية وأبنائها المتفرقين في البلاد، مشتتين تائهين في بلاد الضياع، بعد أن تركوا سُنة محمد صلى الله عليه وسلم، وابتعدوا عن تعاليمه، ولن ينصلح حالهم ولن يجتمعوا على كلمة واحدة إلا إذا عادوا واجتمع شملهم مرة أخرى، كما اجتمع يوسف بأخوته وصاروا عزوة، وتوجوا رأس الحق، وقرّت أعينهم باجتماعهم، كما قرت عين يعقوب بأبنائه. وجاء استخدامه ليوسف كرمز مرة أخرى في قصيدته “في غيابة الجُب” تعبيرا عن عودتهم إلى مجدهم الغابر.
ومرة أخرى يستعمل الشاعر الرموز، فأتى بالرمز “تأبط شرًا” في قصيدته “غربة” مُعبراً به عن حال العربي المعاصر الذي صار يتأبط شرّه في ربوع البلاد، حتى تفرقت الأوطان وتشرذمت وسكر كل كُسرى على أعتابها، فالحال واحد، فكلنا حَزِنٌ يبكي لمَحزون. وعَبر عن حال الشباب الذي مَل الصبر برمزيته لـ “زُهير” الذي لو عاش بيننا لأصابه اليأس في سن الشباب (لاغتاله اليأسُ في سِنّ الثلاثينِ).
ومرة أخرى يأتي الرمز جلياً في قول الشاعر في قصيدته “غاض الماء” التي استخدم فيها أكثر من رمز كـ ” غاض الماء”، “ناخ الجدب”، للتعبير عن حال بلاد المسلمين الذي قَل فيها الماء أي الخير، بل نَقص بأقل من القليل، لدرجة أن الجدب قد استقر في الأرض، فناجى الشاعر ربه أن ينزل الرِي، ليزيل ويزيح هذا الجدب.
وكذا قصيدة “لي ما ليس لكم”، فهي مليئة بالرموز لكنها رموز خاصة بالشاعر، رَبطها ببلد العزة والكرامة، قُدس الأقداس، ومسرى الأنبياء “فـ لـ سـ طـ يـ ن” الذي أتى بها الشاعر بحروف مقطعة كحروف القرآن (فاءٌ لامٌ سين .. طا يا نون)، ليضفي عليها قدسية فوق قدسيتها، وسر ربط كل رموز القصيدة ونسبتها لنفس الشاعر كقوله: “لي آذار”، “لي تموز”، لي تشرين”، “لي كانون”، “لي أزمنة من صبار”، “لي كل فصول العام”، “لي الأيام الحُبلى بالعصيان”، “جبال الصبر”، “ولي الزيتون”، “طعم القهوة”، “أشجار السرو”، “مزلاج الباب”، “كوفية جدي”، “جبال القدس” ليُعلِن أنه بريء مما يجري على أرض الله المقدسة، من انتهاك لكل الحقوق، فهو العاجز الفرد، الذي لا يملك سوى قلمه ومشاعره، فما كان منه إلا أن يُعلن امتلاكه لكل شيء على أرض فلسطين، وللأعداء أرض الضياع، لا يأمنون أبداً، مُحاطون بالخوف.
وفي قصيدة “العاشقون سُكارى” حيث استلهم الشاعر قصة “ليلى العامرية” متعجبًا من لوم الناس للمحبين فقد لام قبلهم من لامَ على حب قيس لها، فللمحبين أسرار لا يعرفها غيرهم، فلمَ اللوم. ولم تكن المرة الثانية ولا الأخيرة التي رمز فيها الشاعر عن محبوبته بـ “ليلى” فقد استدعاها مرة أخرى في قصيدته “حلول واتحاد” “كلانا في الهوى طفل”، “وقصتنا أيا ليلايَ كل فصولها مِزَقُ” وقصيدة “أول قبلة” حين قال: “باحثاً عن طيف ليلى”، وقصيدة “نبوءة العراف” وقصيدته “يا ليل يا عين”.
وفي قصيدة “انكسار” أتى الشاعر برمز لـ ” قارون” ليبرهن على طول مدة الخيبات التي توالت على بلده، بعد تكرار حوادث القطارات. وفي القصيدة الواقعية “وغدا تحاصرك الذئاب” رَمَز الشاعر بالذئب لكل من يعتدي على حق ليس من حقه وأرض ليست أرضه، ووظف الرمز في أسلوب حواري، بين الشعوب وحُكامها، ولكن الصمت يسري على أفواه الجميع.
وفي قصيدة “أغنية لعينيها” استلهم الشاعر الملك (مِينا) في قصيدته ليعود بنا إلى عصور النور، ويستثير خيالنا بالماضي التي كانت تحياه مصرنا الحبيبة في عصرها الفرعوني. وكذلك مفردات مثل: النسر، وصوت رفعت يتلو بيانا، الأزهر، وقوم لوط، كلها رموز جاءت في قصيدة الشاعر “بكائية” التي تفيض بالحسرة على ما آلت إليه بعض العادات غير الأخلاقية في بلاد الطهر والعفاف.
و”فينوس” رمز الجمال استخدمها الشاعر تعبيراً لجمال محبوبته الجميلة الخفيفة الدلال في قصيدته ذات الوقع الخفيف الرنان “بنت الذينَ” وجاء رمز “كازانوفا” من على لسان فينوس، تعبيرا منها على تعدد محبوبات حبيبها.
و”تعويذة الصنم” تصوير لمشهد الصنم الأكبر، وكأنه الفرعون الأعظم، قد سَحر مَن يتولاهم، فيتقربون له طالبين العَطايا، وكأنه مَشهَد زار تُدق فيه الطبول، وتترنح رائحة البخور، وعالم من الخلق مَسحور، مخمور، فأتى الشاعر هنا “بموسى” و”هارون” رمزا لصوت الحَق المخنوق، الذي لا يملك سوى التقرب لله بالدعاء أن يهلك الصنم ومن يعبدونه من القوم المسحورين. وكرر الشاعر “البطون الخاوية” التي رمز بها للجياع الملتفين حوله، رغبة لملء بطونهم ليس حباً فيه. وأتى برمز الصنم مرة أخرى في ختام ديوانه حين عرّف الشعر قائلاً: “الشعر يجلو هازئاً زيف المساحيق على وجه الصنم”.
وفي قصيدته “الخيول والطائرات” مقارنة بين صحوة جيوش العرب قديماً، وحديثاً، في خلفية رمزية بين الخيول والطائرات، فخيل العربي رمز الشموخ، التي لا تنكسر ولا تغمض عيناً، وتُشعل الحروب، وتعبر بين السيوف، لا تأبه لشيء، ماذا حَل بها ما لها تتراخى تحت الطائرات، لا نسمع لها صدىً. أصبح العربي يخشى أعداءه، ونسي أصله القوي كيف كان. وصوت صهيل خيله، الذي كان يرعب الأعداء، أصبحت الجيوش العربية كالأسد الضرير، الأخرس الأبكم، الذي لم يعد يسمع أصوات المنذرين والصارخين..
وفي قصيدة “#الروهينجا”، يبين الشاعر أن شعب الروهينجا يُضطهد بسبب إيمانه بالله، يَلقى أشد أنواع الموت وهو الموت حرقاً فقد فُعِلَ بهم كما فُعِلَ في أصحاب الأخدود، فجاءت القصيدة تصويراً حيّاً لحرق المؤمنين قديماً، فجاء تعبير الشاعر بقوله (الكافرون حفروا الأخدود)، رمزا تعبيرياً لشعب الروهينجا، الذي لَقي منيته على يد الكافرين. وجاء الرمز بـ “طائر الفينيق” تعبيرا منه ورمزا لكل مقاوِم يُولد من جديد فيقف له الكافرون بالوصيد. وتبلغ السخرية في نهاية حدّاً بالتعبير بقوله “وفعّلوا الهشتاج من جديد” لترمز لِمَا آل إليه العرب الآن، لا يحشدون حُشودهم لنصرة المسلمين، بل يحشدونها على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلف الشاشات المُبهمة الصامتة، وهكذا آلَ أمر هذه الأمة إلى أنها طَأطَأت رأسها مختبئة خلف الشاشات.
وعلى درب السابقين خَطا الشاعر في بناء صورته الفنية، نراه كالنابغة الذبياني، نلمح فيه خلفيات امرئ القيس، في تقديم ما يشعر به وتفيض به نفسه من هموم وخوف وحزن وقلق، نراه بين سطوره، يصلنا علو دقات قلبه حين يُحب ويتغزل، يصلنا علو صوت أنفاسه واضطرابها حين يقلق، أو يخاف أو يحزن على وطنه، وعلى عروبته، نلمح جلياً سيفه، الذي يصوبه في أوجه الأشرار والأعداء. وأكثر ما نلمحه في الخلفية المرئية لدى الشاعر صورة الليل الطاغي على قصائده، فالشاعر صديق لليل، وهو حال المحبين فيه يسهرون، وهو مأوى القلقين والحيارى والخائفين. فجاء في مُستهل قصيدته “هجرة” “والليل من كأس الردى يسقيه” لنقف معه مع أول عذاباته مع الليل. ويطول ليل الشاعر في قصيدته “غاض الماء” حين قال: “قد طال الليلُ وفاض الكيْ..” فهكذا ليل المهمومين، وهو المهموم بحال بلاده ليل نهار. وليل العُشاق السكارى يصوره لنا الشاعر العاشق حين يسهر وحده يخطُ القوافي “وَهَبَ القوافي ليله ونهاره”، “غَرِد ونح بالليل” “فقيثارتي في الليالي”، من قصيدة “حلول واتحاد”، وأشركَ الشاعر محبوبته في الليل، فيصور لنا ليلها كما صور لنا ليله فيقول في قصيدته “كلانا في الهوى طفل”، “تنام الليل هانئةً” “تراودني”، “أطارد طيفها والليل ساج” و”إذا خانت دروب الليل شعري”. “لقاء في الليل”، “إلى الليل الصديق”، و”لأننا سرنا بهذا الليل .. والليل زهوق”. وفي قصيدة “أحبتني” “وغنى الليل يا عيني”. وفي قصيدة “أنا والليل والذكرى”، “ستائر الصمت”، “آه يا ليل كيف كُنا سُكارى”. وفي قصيدة “الخيول والطائرات”، “على موعد في هدوء الليالي”، “وفي الليل كانت تنام وقوفًا” قصيدة “يا ليل يا عين”، “يُسائل الليل عن ليلى وقد ظَعَنت”، “والليل ساج ودمع العين ينسكِبُ”، “لا ليل ليلى بليلي”.
فالشاعر المُهاجر عن وطنه وأحبابه يصور لنا صورة حية متحركة، في احتضار الشمس “يحكي عن الشمس احتضار رحيقها” حين تُغادر أرضها. وخلفية أخرى نراها رأيَ العين حين قال في نفس القصيدة “والرمل يزحف كالجراد مزمجراً” ما أن تقع أنظارك على هذا البيت، إلا وترتسم في مخيلتنا صورة حية لزحف الرمال الكثيرة وهي غاضبة.
وتتوالى الخلفيات المرئية التي يرسمها لنا الشاعر، بريشة رسام حين قال في قصيدته “غربة” “الأرض تشرب نخب الموت من دمنا” “وفي جوانحنا نصل السكاكين” فنلمح صورة متحركة حزينة لسخرية القدر لضحك الأرض وانبساطها وهي تسكر من دم أبنائها، وصورة السكين المغروس في الجوانح. وتتنوع الصور عند الشاعر بين الصامت والمتحرك، فنلمح صورة صامتة في قصيدته “غاض الماء” حين قال: “غاض الماء ..وناخ الجدب” وفي قصيدة “لي ما ليس لكم” نمط آخر من الصور المنفردة لأشياء وجودها حقيقة ما أن نقرأها حتى تظهر بشكلها في مخيلتنا ومن أمثلتها: “الزيتون، رائحة الأرض الأم، طعم القهوة، أشجار السرو، مزلاج الباب، عصفور ينقر في شباك البيت، صوت الناي، سَرْج حِصان الفتح، سيف أبي، كوفية جدي، جبال القدس” ، وصوراً متحركة أخرى نبكي فيها مع المحبوبة في قصيدته “ذهول الدهشة الأولى” حين قال: “وقد سالت دموع العين قنديلا” القصيدة التي نسمع فيها الحوار الدائر بين الحبيبين. وعلى خُطى الأسبقين في ذكر الأطلال والأودية، جاء قوله في قصيدته “لنا مداران”، “بيني وبينك أطلال وأودية من الدموع ونهرٌ بالحنين جرى”، “يأسا أناجي الأسى والشوق يغلبني”، “لي في موطني طلل”، “والناي ينهل من ينبوع قافيتي” ليُعبر عن طول المسافة التي تحجب بينه وبين محبوبته، وغزارة دموع الشوق والحنين الذي لا ينقطع. فيناجي أساه في وحدته، ويتذكر أطلالا خلفها في موطنه. ولم تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي عاد بنا الشاعر من خلالها لأطلال الأسبقين، فقد طلب من محبوبته أن تبكي على الأطلال عقابا لها لما فعلته به حين قال في قصيدته “نصف امرأة” “فأبكي على طلل القصيدة طفلة”ً. خلفية أخرى من نوع مختلف يصورها الشاعر في أبياته لكنه غير مرئية، خلفية موسيقية مسموعة في قصيدته “العاشقون سُكارى” حين أطربنا وقال: “مترقرقا يسري كما يسري الندى .. لحنا طروباً نبه الأزهارا”، “هو ذلك الطير المغرد في الضحى .. مد الجناح يسابق الأطيارا”، “حتى إذا حل المساء حلا له .. صوت الأنين وفي الظلام توارى”، “غرد ونح بالليل وارقص في الضحى…” وكذلك في قصيدته “بكاء على الأطلال” صورة أخرى وكأنها خلفية مرئية ومسموعة لجلسة سَمَر بين الأصدقاء ومن حولهم النار مُشتعلة وحطَبها أحلام المحبوب يتهامسون فيها عن اللؤلؤة فيفضحون أمرها. وحين قال في قصيدته “نصف امرأة”، “أضرمتِ نار اليأس في أحلامها .. وأذاعت الأصداف سر اللؤلؤة”. وخلفية أخرى بحركة نسيم زهور الربيع في قصيدته “لحن من الغيب” “ووجهك وجه الربيع تهادى.. فأيقظ زهرَ الرُبا والحقولا”، وفي قصيدته “مُرتحِلٌ في الصمت” وهي قصيدة بها أكثر من صورة مسموعة ومرئية، فالمرئية “على الأشواك محتفيا وقبلاً مشينا في طريقٍ مُطمئن”، والخافية المسموعة “وصوت الذكريات له نشيج.. يُذيب الحزن في ألحانِ فني”، وقصيدة “خَمرة اللقيا”، أتى فيها بصورة متحركة، “مالت وحنت ونار الثغر في شفتي.. الله يا ريقها أحلى من العسلِ”، “قد أبحرت في اصطفاق الموج أشرعتي” وفي قصيدة “أول قبلة” صور لخلفيات متحركة حين قال: “إذ تعانقنا ومالت.. فوق كِتفي منك خصلة”، “وتمايلنا سكارى”، “كلما جُذت حبالٌ.. مد للأشواق حبله”، وقصيدة “قدت قميصي من دبر” معظم عباراتها تكمل الصورة لتوضح الرؤية عن القصة المروية فيها بين الحبيب ومحبوبته فمنها جاءت الخلفية المسموعة والمرئية : “شدت عن القوس الوتر”، “وأطلقت سهم الضجر” ، “قالت سئمت دع يدي”، “ودمع عيني المنهمر” يأخذنا الشاعر عبر سطوره في صورة حية لنرى ما حَل به من طول انتظاره لرؤية محبوبته، وفي قصيدته “غدا نلتقي”، “تثير الغروب على مفرقي”، “أسافر عبر الأعاصير وحدي”، “ويصفع موج الأسى زورقي” ،”أرى الشط ينأى رويداً رويداً”، “فيا ناعس الطرف يا قاتلي”، “تركت الغواني يبكين خلفي”، وقصيدة “وغداً تحاصرك الذئاب” تُعد كلها صورة فنية؛ حيث تصور مشهد الذئب وهو يرقب صيده من خلف أسوار القطيع، وصوت الحوار الدائر بين السيد والشعب. وقصيدة “أود أن أعيش في سلام” عبارة عن صورة فنية لقصة الطفل وهو يلهث في الطرقات مُمتطياً عَصاه، وحواره الدائر مع أمه عن كسرة الخبز، ونظافة الرداء، وحواره مع صديقته التي فَرَّ منها، ووعده لها أن يلقاها في الغد، وكيف قضى ليله يفرك جفنه، ويبارز الأشباح. وقصيدة “تراودني”، رسم الشاعر من خلالها صورة هادئة ناعمة لصورته حين يراوده طيف محبوبته/ الكلمة، فيبتسم في هدوء، ويطمئن ويظل ساهراً يُطارد طيفها كطفل خلف لعبته يُغني، “تراودني فأبسِم في هدوء .. وأمشي مشي ليث مطمئنِّ .. أطارد طيفها والليل ساجٍ .. كطفل خلف لعبته يغني”. وقصيدة “لقاء في الليل” خلفية الصورة مرئية، “في الظلمة العمياء” وخلفية أخرى مسموعة” كان الليل يفشي سر من لاذوا”، “والعاشقون شفة في شفة”، خلفية موسيقية للشاعر في ذكراه مع محبوبته ليلاً “وموسيقى من الأحلام .. دندنها شجا وتري” ورجع صداه موال” وقصيدة “إمام العاشقين” القصيدة عبارة عن صورة لخلفية مسموعة في إطار حوار بين الشاعر والمحبوبة “رنت مثل رئم شرود وقالت إلام تحدق فيَّ إلامَ”، إلى آخر القصيدة، وقصيدة “ثورة أنثى” صورة لخلفية مرئية وحوارية مسموعة بين الشاعر ومحبوبته “واكشفي عن ساقك الآن بصرحي”، “وارقصي لي رقصة التانجو على وقع الكمان ..عاندتني فتبارزنا وثُرنا واختصمنا”، “وأنا في الزهو أخطو.. بعد أن حُزت الرهان”، “عانقتني في دلالٍ ..وجنى النهدين دان” ، وقصيدة “بنت الذين”، خلفيتها مرئية وموسيقية حوارية مسموعة “فينوس في الزهو تخطو”، “بنت الذين سبتني.. فقلت أهلاً وسهلاً”، “يا سعده وهناه.. من رام منك وصالا”، “قالت أيا كازانوفا.. لقد طلبت مُحالا”، “أطلقت للريح ساقي.. وقلت لا لا للا لا”. وقصيدة “ستائر الصمت”، خلفية لصورة متحركة حين قال: “كم مشينا والكف في الكف نامت.. كقطاة باتت بعُشٍّ أمينِ”، وقصيدة “في رثاء فلاح” القصيدة عبارة عن حكاية فلاح خلفيتها مرئية ومسموعة، كيف جاء إلى الدنيا مُجهداً وكيف رحل عنها مُجهداً. وقصيدة “تعويذة صنم”، خلفية متحركة لمشهد السَحرَة وهارون “هارون يبكي وحده .. في غابة الديجور.. والساحرون صلبوا.. فصفق الجمهور” وقصيدة “الخيول والطائرات”، صورة لخلفية متحركة لوقع الخيول والسيوف “وقد كانت الخيل ..تحت ظلال السيوف” ، “وتعدو إذا ما تراخى الكُماةْ .. وكانت تُسابق نصل السهام”، “وفي الليل كانت تنام وقوفًا”. وقصيدة “#الروهينجا” بها خلفية متحركة لتصوير مشهد حفر الأخدود، وحرق المسلمين “الكافرون حفروا الأخدود ..وكبلوا النساء والأطفال بالقيود.. ألقوا بهم في قعره البعيد .. النار فيه موقدة .. في عَمَدٍ ممددة”، “وطفلتي يا سيدي .. يُصب فوق رأسها الحميم .. فتُصهر البطون والجلود”.
لقد وُفّقَ الشاعر، فعبر لنا عما يَجُول في نفسه، ودمج مشاعره بمشاعرنا، فتعايشنا مع أحاسيسه ومواجعه، إننا أمام شاعر صادق مُحِبٌ لوطنه ولعروبته، استطاع بريشة فنان وعدسة دراما أن يرسم ويُصور أجمل المعاني، التي تبكي لها العين والتي يزهو بها الفؤاد، نَطرَب من التنوع الموسيقي لخلفيات مشاهده، بين النَغَمِ الصاخِب، والنغم المهموس، والنغم ذي الوقع السريع، أمتعنا أيضاً في اختيار أدواته الرمزية، وخلفيته التاريخية والحكمية والدينية في بَث رَوح من الروحانيات على قصائده، ونَثرِ عَبَقِ الماضي بأطلاله وأبطاله بين سطوره. تنقلنا معه بكونه سندباد مُهاجر بين أكثر من قضية وأكثر من مكان مكثنا معه فيه، مُلقين بأمتعتنا، ولكن ليس بعد عَناء، بل بعد مُتعة الرحلة، لنكتشف مكاناً جديداً، بقصة جديدة، مُسترجعين معه ذكريات الماضي. ومن خلال العَرض البانورامي للقضايا العربية، كنا نلتقط أنفاسنا ببعض الموسيقى الخفيفة الممتعة مع بعض الغزليات والمناوشات بين أبطال قصصه الرومانسية من محبوب ومحبوبة، وكأننا أمام عروض سينمائية تتخللها بعض الفواصل الإعلانية الممتعة غير المتكررة، بل لكل منها مذاقه الخاص.