جمالية المنظر في الحركة الفنية ــ محمد غناش
المنظر الخلوي من أكثر الموضوعات التشكيلية حضوراً في تاريخ الفن، فقد استخدم الموضوع للتعبير، من جيوتو دي بوندوني 1266- 1337م (الفنان الكلاسيكي الإيطالي) إلى الفنان الفرنسي بول سيزان 1839-1906م (الأب الروحي للفن الحديث)، كما عالجه الفنانون كخلفية لمختلف الموضوعات الإنسانية، بما في ذلك “البورتريه” و”العاري” والموضوعات المستوحاة من الأساطير، وأخذ أهمية خاصة في فنون الشرق عامةً، والفن الصيني خاصةً.
لقد استخدم المنظر الخلوي لأغراض مختلفة، فهو في بعض التجارب الفنية وخاصة الكلاسيكية بحد ذاتها غاية، وهو في تجارب أخرى وسيلة لترجمة موضوع معين، وفي تجارب ثالثة نراه وسيلة وغاية في آن واحد، كما في التجارب الانطباعية.
فقد أكد الفنانون الانطباعيون منذ البداية على هجر المراسم والخروج الى الهواء الطلق وإلى الطبيعة، ورسم المنظر عن الواقع مباشرة، وتمردوا على تعاليم الكلاسيكية في الخط واللون والنور، وعملوا على تثبيت المنظر ضمن لحظة زمانية محددة، أي بعيداً عن تبدل الألوان التي تتبدل بتبدل الضوء. وعبر المنظر بحثوا في العلاقات اللونية التي أصبحت هدفاً حقق تميزهم، إلا أن النتيجة كانت بلا شك رؤية مثالية للمنظر، وهذا ما رفضه “سيزان” الذي تمرد على تعاليمهم ومفاهيمهم، حين قال: “إنني أرى زجاجة، فأرسم أسطوانة”، فقد عمل على تصوير ما هو أبعد من المنظر الفيزيائي أو اللوني الانطباعي للمنظر، لقد أراد الجانب المادي المتحرك بحركة الطبيعة والحياة.
وإذا أردنا الحديث عن نموذج مغاير في تناول المنظر، فيمكن أن نذكر تجربة الفنان الهولندي (فان كوخ 1853-1890م)، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد وجد هذا الفنان التعبيري في المنظر وسيلة ناجحة لترجمة انفعالاته وعواطفه وأحاسيسه، فالمنظر في لوحاته ليس غاية، وهو ليس المنظر بالمفاهيم الكلاسيكية والواقعية والانطباعية، أنه كل ذلك مسكوباً في شكل “منظر”، إنه التعبير عن مختلف الحالات الإنسانية والانفعالية من حزن وفرح وألم، وقد حقق “فان كوخ” هذه الحالات عبر ضربات لونية حارة قصيرة وسريعة وشديدة، وهذا يعني أن جمالية المنظر في لوحاته هي جمالية الانفعالات، وانفعالاته التي قادته إلى أبعد الحدود، إلى الجنون والانتحار.
وفي حديثنا عن المنظر في الفن التشكيلي في سوريا، لا بد من الإشارة إلى التنوع الجمالي في طبيعة الشرق، من حيث وضوح الألوان وصراحتها وإشراقها وتنوعها ودرجاتها اللونية بتأثير من أشعة الشمس، يندر أن نجد له مثيلاً في بلد تزوره الشمس في المواسم أو في بلد يكثر فيه الضباب أو تغطيه الثلوج معظم أيام السنة، لذا يفترض أن ينعكس هذا الفن اللوني لطبيعة البلاد في نتاج الفنانين على اختلاف أساليهم واتجاهاتهم في معالجة المنظر، فالألوان بين أيديهم، ولا حاجة للبحث عنها، كما فعل بعض الفنانين المستشرقين، وخاصة الألماني “بول كلي 1879- 1940م” الذي صاح بأعلى صوته إثر زيارته للشرق: لقد وجدت ضالتي، ولم أعد بحاجة للبحث عن اللون .. اللون يغمرني، فأنا واللون شيء واحد، لقد أصبحت مصوراً”.
لقد ظهرت لوحات المنظر الخلوي في نتاج الرواد الأوائل، أمثال: توفيق طارق، سعيد تحسين، منيب النقشبندي وغيرهم من الذين مثلوا الحركة الفنية في سوريا.
فعبر أسلوبهم التسجيلي تناولوا مختلف الموضوعات، بما في ذلك المنظر الخلوي، فسجلوا مظاهر الطبيعة بواقعية، وكان التنافس بينهم قائماً على محاكاة الطبيعة عبر مبدأ المماثلة، واستمرت هذه الرؤية، التي تقوم على المحاكاة والمطابقة بالمفهوم الفيزيائي حتى ظهور “الانطباعية”، أو لنقل ظهور تجارب أقرب إلى الانطباعية، والتي تمثلت في نتاج بعض الرواد من الجيل الثاني، أمثال: ميشيل كرشة، نصير شورى، ناظم الجعفري، وغيرهم.
وإذا كان من الممكن أن نتوجه بالنقد إلى الإنجاز التسجيلي لجيل الرواد الأوائل، فالملاحظة التي نراها أساسية تكمن في تمحورها حول تفاصيل عناصر الطبيعة، بعيداً عن الخصائص اللونية التي تتميز بها طبيعتنا، ولعل مرحلة ظهور “الانطباعية” كانت من أغنى المراحل، فقد ترافقت مع ظهور أشكال أكثر تطوراً للواقعية من الشكل التسجيلي، ويمكن أن نذكر تجارب “صبحي شعيب، اسماعيل حسني، محمود جلال”، وإذا كان الجيل التسجيلي – جيل الرواد الأوائل- قد عمل على تصوير مظاهر الطبيعة ، فإن الجيل الانطباعي – الجيل الثاني من الرواد- قد اعطى اللون أهمية خاصة وخرق التقليد الذي كان سائداً في محاكاة الطبيعة، واستبدل البناء الشكلي بالبناء اللوني، محققاً درجات متنوعة من القيم الجمالية اللونية الشاعرية والغنائية، وهذا ما نراه في تجربة الفنان “ميشيل كرشة” أحد رواد الانطباعية، فقد أعطى الطبيعة أهمية خاصة، واستمر في صياغة المنظر منذ عودته من الدراسة في باريس عام 1962م وحتى آخر حياته. وخلال أكثر من نصف قرن عرف بفنان المنظر، وكانت له الشخصية المتميزة التي ارتبطت أساساً بالطبيعة، وأثرت على من جاء بعده. وتابع رحلة البحث اللوني في الطبيعة، كما يعد أول فنان سوري يصور الطبيعة من الواقع مباشرة وعبر التعاليم الانطباعية، ومن أوائل الفناين الذين استخدموا بعض الألوان كظل للألوان الأخرى, ولم تكن التفاصيل تشغله، بل كان يعمل على تبسيط الأشكال، فيحذف ويضيف إلى أن يحقق جمالية اللون.
ويظهر في تلك المرحلة الفنان “نصير شورى” كرائد ومعلم أعطى المنظر كل اهتماماته، وظل حافظاً له في كل مراحله، وعبر مختلف أساليبه وبحوثه واتجاهاته من الشكل الانطباعي العفوي إلى الشكل التجريدي العقلاني المنظم، ولا نبالغ إذا قلنا بأن تجربته مع المنظر لا مثيل لها في الفن العربي المعاصر، فقد استطاع ان يتمثل الطبيعة بألوانها وأشكالها، ووصل إلى مرحلة تتسم بكثير من الفن الشكلي والثراء اللوني، واستحق بجدارة لقب شاعر الطبيعة، وشاعر الألوان والبهجة والفرح، حتى دفع المتلقي لأن يعشق مصدره التعبيري المتمثل بطبيعة البلاد.
ولا شك في أن إنجازاته في التعبير عن المنظر جاءت نتيجة معايشة انفعالية وعاطفية للطبيعة، ونتيجة رهافة في الحس إلى جانب جولاته المستمرة في ربوع البلاد. وتمثل تجربته نموذجاً رائداً يعكس التطور في مفهوم المنظر ومعالجته معالجة جديدة، تنشد تحقيق الانسجام والتناغم وبمنتهى الشاعرية والغنائية، وهي بهذا المعنى اول تجربة في الحركة الفنية تبحث موسيقا الألوان، وتحول المنظر إلى علاقات لونية موسيقية.
ومن أعمال الفنان محمود جلال نذكر لوحاته “الراعي، بدوية، حاملة الجرة…الخ” التي استخدم فيها الطبيعة كخلفية للعنصر الإنساني وأعاد تكوين اللوحة منطلقاً من التعاليم الكلاسيكية في البناء الهرمي المثالي والتي تلقاها خلال دراسته الفنية في روما، والشيء الهام على صعيد المحتوى يكمن في تلك الأجواء القدسية التي شكلها من الطبيعة والتي تحيط بالإنسان العادي الذي صوره بمنتهى النبل
وكذلك هناك تجربة رائدة في مرحلتها، وهي للفنان “اسماعيل حسني” الذي صور المناظر المستوحاة من ريف ديرالزور، وبصيغة واقعية، ورغم إنتاجه المقل، فقد كان مدركاً منذ البداية بضرورة خرق المظهر الخارجي البراق للمنظر، وإعادة بناء الطبيعة بما يتلاءم مع حركة الحياة، لذلك فقد عاش هاجس البحث عبر المعالجة اللونية والخطية والنباتية التي تصله إلى عمق الأشياء في حركتها، لا في مظهرها. وقد تمثل طبيعة المنطقة بحرارتها ووهج شمسها وصراحة ألوانها، وكان حريصاً على ان يجعلنا نحس بالمادة، وبماهية عناصرها المستقاة من الطبيعة. لقد صور لنا جمال المنظر ومعاناة الإنسان،، وخاصة المرأة الريفية التي تعمل في الحقل والمنزل في آن واحد، وقد اعطى المنظر في ريف ديرالزور أهمية خاصة، فثمة تجارب تميزت في تصويرها ومعالجتها المستمرة لمناطق محددة من الطبيعة، وذلك من خلال معايشته للحياة اليومية في تلك المنطقة.
ومع تطور الحركة الفنية في سوريا، تطورت المفاهيم والقيم والجماليات والمضامين المرتبطة بالمنظر، فلم تعد لوحات المناظر صوراً تسجيلية للواقع أو قيماً لونية جمالية او خلفية لموضوع إنساني، بل أصبحت تعبيراً عن قضية، وأخذت في بعض التجارب أشكالاً جيدة وغريبة غير مألوفة، وهنا نذكر تجربة الفنان “مروان قصاب باشي” الذي تجاوز كل المفاهيم والجماليات والقيم التي كانت سائدة ليحقق محتواه الإنساني عبر هيئة غير مألوفة، فقد استخدم “البورتريه” للتعبير عن المنظر، والتغني بطبيعة البلاد، والكشف عن حنينه الدفين للوطن، وقد عملت مجموعة كبيرة من الفنانين السوريين على رسم الطبيعة مخلدين بذلك الأجواء بكل حميمية، مقدمين لوحات خالدة وشاهدة للمناظر الجميلة في بلدنا.