قصة النثر الشعري – سحر القوافي
قصة النثر الشعري، جنس أدبي حداثوي يفرض نفسه بين الأجناس الأدبية، ويجمع فيه الكاتب من روح الشعر ومقومات القصة، فمن جهة هو قصة متكاملة بخصائصها ومقوماتها الفنية، غير أنها تكتب بشاعرية جميلة تضاهي قصيدة النثر في انسيابية أسلوبها وعذوبة لفظها وأناقتها ورمزيتها وجموح خيالها وتأجج عاطفتها وتدفق أحاسيسها، فنية في صورتها الشعرية، وفي تلائم قوافيها، وتناغم موسيقاها الداخلية العفوية مع الدفقات الشعورية والمواقف.
ومن هذه العناصر المتداخلة المتنوعة والمتوازية أحياناً تنسج الحبكة والأحداث في انسجام مع الانسياب الشعري والدفق الشعوري، وتتأزم وتنفرج معتمدة على التداعي الحر للأفكار والأحاسيس والأخيلة التي تنسج من خلال الاسترجاع والذكريات أو الوهم وظلال الواقع، فتعيد بناء الواقع من منظور ذاتي ورؤى مغايرة مدهشة مربكة مغرقة في التأمل والتصور العميق، فتنقل إلينا المشاهد والأحداث أشد جلاء ووضوحا من الواقع بصورة غير مألوفة، لأنها تزيل عنه الستار الذي يتخفى خلفه وقد أنارت فيه الجوانب المعتمة التي لا يراها إلا أهل البصيرة النافذة والروح الصافية، وغالبا ما نجدها تغرق في الصوفية والروحانية بعيداً عن سطحية المادة وبساطتها.
هذا الجنس الأدبي الماتع ليس وليد صدفة بل أوجدته عوامل عدة، أهمها الرغبة في التجديد والإبداع، والخروج عن المألوف المعروف، والانفلات من ربقة القيود العتيقة التي اقتراها كتاب القصة، فميلاد قصيدة النثر الشعري التي راجت بشكل لافت جعلت النثر الشعري يطرق عالم القصة عند بعض الكتاب لاسيما منهم شعراء قصيدة النثر، فتأثروا بأسلوبها أيما تأثر، تجلت بواكره وبوادره الأولى عندي وعند أدباء معاصرين من أمثال الأديب الليبي شيخ المثقفين إبراهيم عبد الحميد في مجموعته القصصية “تميمة عطر”.
يقول الكاتب في قصته النورانية المعنونة “ارتباك”: “على ظلال سكون الذاكرة.. تفيء روحك، ينبشك ضجيج الصمت.. تدغدغ الكلمات ضفاف القلب، مرغما تسكن عذابك العذب.. تنهمر الكلمات سخية لتبثك على ورق الزمان.. تميمة، طلسماً، ايقونة للفرح، يسقيك الفرح قطرة قطرة من رحيق الحب.. تشتعل فيك جذوة الحياة نور يتلألأ”.
“طوبى لك أيتها المباركة.. اخرجيني من صومعة عشقك.. يقلقني صمتك.. عالية أسوار سجنك.. اسقطيني من كل حساباتك.. ودعيني اتوحد مع خمر دمي.. علني أسري على الشفاه أغنية للحياة يرددها كل السكارى.. وكل الحيارى.. واتركي شكي يستحم في يقيني.. بوحي لعنة مسجونة في منذ بدء تكويني ولم اتوضأ بدمعي لكي أتطهر من عتمة جنوني”.
وفي قصتي خلجات مقعدة كتبت: “على مقعد السلوان والشجن تتوسد الأوجاع والوهن، وترقب أطياف الحياة تمر أمامها من سنين خلت.. من الزمن الأعجف العربيد حيث كانت عائدة من الحرم الجامعي إلى بيتها في الحافلة.. تلك الرحلة المفجعة مازالت تتشرش بذاكرتها، نقشت كالأوشام والندوب التي خلفتها الحروق، بترت ساقيها وتركتها تصارع عنفوان الوحدة والوجع والعجز.. مازالت ظلال الانفجار تلقي بحجبها وشررها على أيامها الحبلى بالآهات والأنين وفواجع المحن والسفر المشؤوم يحفر في ذاكرتها العتيقة أخاديد الصدأ، ويمد جذوره في خاصرتها وحاضرها، يكبلها بمقامع من اليأس والصقيع.. تلك الأصفاد التي سترافقها حتى الختام، الرحلة التي سرقت منها ربيعها وبسماتها والأحلام وألقت بها في غيابات الظلام.
مازال السفر يرافق أنفاسها وخواطرها والفاجعة تطل من نظراتها المنكسرة المعبأة بالأشجان، كلما انتهى السفر تعاودها أحداثه من جديد.. صارت تلك اللحظة البائسة كابوساً يجثم على صدرها، فتغرق وهي نائمة في الصراخ والعويل تستجدي النجدة والانعتاق، هذا السعير الذي يسكنها ويحيلها رماد إنسان، لياليها لا تشبه الليالي قتاد وعبرات وكفن من عتم وألم”.
وفي قصة “البحر يلفظ أنفاسه” يقول الأديب الجزائري المبدع مصطفى بوغازي:
“هو ذا المساء يخيم على المدينة هناك على مد البصر، أين يرتسم وهج الضياء خيوطاً ذهبية توسدت صفحة الماء، وحفتها ظلال داكنة.
الموج يندفع مزمجراً يصفع الصخور العتيدة والريح تحمل معها نسائم البحر الآتية من الشمال، والأرض تنبعث منها رائحة التربة المعبقة بشذى الأحراش والطحالب بعد أن تشبعت بخمر المطر.”
هؤلاء الكتاب المبدعون اعتمدوا الدفق الشعوري والصورة الشعرية الفنية والرمزية وعمق الخاطرة والتوغل في عالم الروحانيات حتى برزوا كفكر صوفي محدث نقلوا الصوفية من عشق الذات الإلهية ومناجاتها التي كان يتمحور حولها إلى عالم الرؤى المتجلي عندهم، فأصبحت هذه التجربة الجديدة من عناصر الانجذاب إلى فضاءاتها المدهشة.
ومن الخصائص التي تستوقفنا في بناء المقومات الفنية لهذه القصة تداعي أسوار الزمان والمكان، فالكاتب يشكلها كيفما يشاء من الواقع والحلم والوهم ويوزعهما حسب دفقاته الشعورية، فلا زمن معقول إلا زمن القصة ولا مكان لها إلا ما أراده الكاتب وسعى إليه وحرك فيه أحداثه وأبطاله، فكشفوا عن ظلال الواقع وأسراره الخفية التي لا تدرك إلا بالعقل الباطن والإحساس المرهف الشفاف الملتقط لمختلف ذبذبات الروح وخلجاتها والبصيرة الثاقبة، فتنقل اللامرئي وتجعله مرئياً جلياً واضحاً في صورة من الصور التي تجمع بين الواقع والخيال الخلاق والخاطرة المتوهجة، حتى تحسه وهو يكتب كأنما يمسك بقلمك ويفرغ مشاعرك وخواطرك بلغة أنيقة وعبارات انسيابية موسيقاها تنبع من الدفقات الشعورية التي تشتد وتخفت، تبلغ ذروتها ثم تفتر لوهلة أو في وقفة لتلتقط أنفاسك اللاهثة ورجفان فؤادك الخالق، فتشعرك بصدقها الثري المؤثر في المتلقي، وتلك العقدة التي تدور بك في دوامة تخالها غير منتهية لتستوقفك فجأة عند نقطة مربكة مبهرة، إنها تأسرك بشاعريتها الغزيرة المنسابة التي تنطلق من نقطة أو لحظة لتأخذك بعيداً في متاهتها وعالمها لتعيدك إلى ذات النقطة التي حلقت منها، تلك النقطة أو البؤرة تمثل الحدث النابض في العمل القصصي، وقد اختيرت لها شخوص واقعية أو أسطورية حقيقية أو واهمة، محسوسة أو روحية أو أطياف أو أرواح، تلك النقطة هي المكان الذي تنطلق منه الأحداث وتعود إليها، وزمانها هو الزمن الذي يلج من خلاله الكاتب إلى الزمان القصصي ويعيدك إليه.
يقول الكاتب الجزائري “مراد العمري” في قصته الموسومة “المزمار السحري”:
“حملت مزماري السحري وعزفت لها أحلى الألحان، عندما تسمع ألحاني قلبها يخشع لي. كانت الطفلة ترقص بين مزماري.. مزماري أعزف لكل النفوس الحائرة حتى تصغي ولا تشد الرحال وإن كانت مسافرة.”
ويقول الأديب الليبي الكبير الصديق بودوارة في إحدى قصصه الشعرية “سيدتي”:
وفي الخيال أني أراك ِولا أراك ْ.
ومن نعمة الوهم أن الكون ملكي ..
وأنك لي .
وأن لحجر الصوان صوتاً لا يسمعه إلا من اعتقد بوجود الصوت .
وأن لصمت الكائنات همساً لا يسمعه إلا من اعتقد بوجود الهمس.
وأن لحضورك سيدتي معنى يماثل حجراً على وجه ماء ..
وجهي هو الماء ..
وقدومك الحجر ..
وارتعاشةُ أصابعي عند السلام دوائر !!
في قصة النثر الشعري نجد من روح الأسطورة والخرافة والحكاية والقصة والمقاومة والشعر والخاطرة، سرد سريالي فيه من مختلف الألوان، حالم مثير للدهشة والإرباك والمتعة، مغرق في التأمل والتحليق في عالم صوفي روحاني منسوج من صفاء الفكر والروح وصدق الشعور، ومنها ما هو موغل في القصر والإيجاز، ومنها ما غلبت عليه روح الأسطورة، غير أنها جميعاً ترسل شيفراتها ورمزيتها التي تحتاج إلى قارئ فطن نبيه متمعن، ليبلغ سدرة منتهاها ويفك أسرارها، إنها أحياناً تبدو كاللغز المحير الذي يحتاج إلى بصيرة نافذة وبعد نظر، الحقيقة الخفية المغلفة بالصمت والظلال والعتمة، الحقيقة المتوارية خلف الحجب التي لا تدركها العين المجردة ولا الحواس بصفة مباشرة إنما تلتقطها كإيحاء أو إيماء أو إحساس أو إدراك عقلي روحي.
أقول في قصتي الموسومة “ليلة في الجحيم”: “تناثرت أوراق الخريف على أضرحة السنين التي عشناها، وعبثت خفافيش الظلام بسقياها، ووأدت أحلامنا في قعر النسيان واقتلعت من أرواحنا جذور الياسمين والنرجس وخنقت أنفاس الفجر وضحكات الأطفال في أفئدتنا الكلمى، تلك السنون التي حفرت في الذاكرة ندوبها الغائرة، المآسي التي غلفت الأماسي وأغرقتنا في وهاد الظلام والوجع، مازالت تعربد في الذاكرة تشوش مشاعري وتعبث بخواطري، تحاصرني ظلالها الحارقة، فيلازم الكمد نبضات فؤادي وشهقات أنفاسي، ما تركت مني سوى الدخان والرماد الذي لهت به عواصف الأسى وجرفته سواقي الدماء، والناس حولي أشباهي؛ هياكل خاوية من الحياة، أوثان يدب فيها السقم والفراغ والجوع والوهن ويعبئها الصقيع والشجن، ومازال نعيق الغربان يجلجل في الفضاء وجحافل الظلام وخفافيش الشؤم تملأ السماء، ما زلت التفت حولي، فأجد ظلي لاهثا من عبء الحمل وأكداس الأشجان والحرمان التي أجرها من زمن القحط وسيول الأنين ترسمها خطواتي.
لقد تولد هذا الجنس الأدبي من عدة أجناس تداخلت بشكل ما.. وربما بدت أحيانا الواحدة أبرز من الأخرى فيها حسب ما يقتضيه الموقف والفكرة ومبتغى الكاتب.
فحق لهذا المولود الأدبي أن يصطلح عليه قصة النثر الشعري