افتتاحية العدد (18): حوار الثقافات في الشرق الأوسط
لم يُخلق البشر عبثاً على هيئة أقوام وشعوب لكل منها ثقافتها ولغتها وكينونتها الخاصة بها، بل من أجل التعارف والتواصل والتعايش المشترك، وهو ما صرح به الخالق ذاته علناً. وإذا كان الأمر كذلك إذاً فما سرُّ كل ما جرى في التاريخ وحتى الآن من حروب وهجمات وغزوات وحملات الإبادة يقودها البشر ضدّ بشرٍ آخرين، حيث تتخللها ممارساتٌ مروعة بحق الإنسانية، من قتل ومذابح ومجازر جماعية ونهب وتدمير القرى والمدن والمقدسات والأوابد الحضارية والأثرية واغتصاب الكرامة الإنسانية والعبودية ولاسيما بحق المرأة؟!. هل يمكن اعتبارها حالة انتقامية لدى هؤلاء أم خوف على وجودهم ومستقبلهم أم أن اعتناقهم لأفكار متطرفة وعنيفة هو الذي يدفعهم لارتكاب مثل هذه الأفعال؟!
على كل حال لا يمكن التبرير لأي قوم أو فئة بشرية بارتكاب التجاوزات الإنسانية بحق قوم أو فئة أخرى، ولكن الأمر المؤكد في هذا السياق أن انعدام التواصل بين الأقوام والشعوب والمجتمعات هي المسبب الرئيسي لكل تلك التجاوزات، فالتعارف والتواصل الإنساني يُخلق حالة من الثقة المتبادلة، ويبعد الأفكار المتطرفة والعنيفة، ويرضي مصالح كل الأطراف بما يضمن حقوق وواجبات كل طرف أو قوم لآخر. وبالتالي أن هناك ضرورة حتمية للتعايش والتواصل الحضاري بين المجتمعات والثقافات المختلفة.
إن سياسة التفرقة وزرع بذور الفتن بين شعوب وطوائف منطقة الشرق الأوسط يعمل عليها من قبل القوى العالمية المهيمنة وبعض الأنظمة الحاكمة في المنطقة، وهو ما يؤثر كثيراً على ديمغرافية وجغرافية والوجود الكياني للشعوب الأصيلة، ويشكل خطراً على التاريخ الثقافي والحضاري للمنطقة، وتسببت تلك السياسة خلال قرنين من الزمن في اندلاع حروباً طائفية أودى بحياة عشرات الآلاف من أبناء لبنان، وعمقت الخلافات بين أبناء المذهبين السني والشيعي في بلدان العراق واليمن وسوريا، وكذلك جرى تحريض غير مسبوق على الشعوب المسيحية والكرد في تركيا وسوريا والعراق وإيران والذي تسبب بارتكاب حملات الإبادة الجماعية والتغيير الديمغرافي في تلك البلدان وإلى الآن لاتزال المسألة الكردية دون حل دائم في المنطقة.
وثمة محاولات وبحوث ونظريات لكشف النقاب عن الوجه الحقيقي لتاريخِ السنوات الألف الأخيرة للشرق الأوسط، يقول السيد عبد الله أوجلان في هذا الصدد: (هناك عَمى كبيرٌ وشوائبٌ عالقةٌ بوعيِ التاريخِ في هذا المضمار. ومن دونِ تخطي ذاك العَماءِ وتطهيرِ تلك الشوائب، لن نستطيعَ إبداء الفهمِ السديدِ لقيمةِ الإرثِ الثقافيِّ للشعوبِ بصورةٍ عامة وللشعوبِ التي تجترُّ مخاضاتِ المأساةِ بصورةٍ خاصة. كما لن نستطيعَ حينها العيشَ بصوابٍ في الحاضر، ولا الانتقال إلى مستقبلٍ واعد، ولا إضفاء الحريةِ على مستقبلِنا، ولا النجاح في العيشِ المشترك والتآخي).
ومن هنا يأتي أهمية تحقيق الحوار بين شعوب وطوائف وثقافات منطقة الشرق الأوسط التي تشهد حروباً وفتناً لا مبرر لها، ولا يتحقق ذلك إلا بقبول بعضها البعض، والاعتراف بالكينونة المستقلة لكل الشعوب، والتخلي عن فكرة الاحتلال وقمع الشعوب والمجتمعات المحلية. بما يؤدي في النهاية إلى قطع الطريق على كل محاولات الفتنة والتفرقة، والحفاظ على الموزاييك والتنوع الثقافي وخصوصية القوميات والشعوب، وبناء نظم ديمقراطية بما ينسجم مع التاريخ والمعتقدات والثقافة الجمعية للمكونات والشعوب، وتحقيق النهضة الحضارية والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة في المنطقة.
ولأهمية موضوع “حوار الثقافات”، فقد ارتأت هيئة التحرير في المجلة اعتمادها كملف للعدد الجديد (الثامن عشر)، إضافةً إلى أن العدد يحتوي على مواضيع ونتاجات أدبية أخرى قيمة، راجيةً من القراء الأعزاء الاستفادة القصوى والفائدة المرجوة.