افتتاحية العدد (19): في أهمية التدوين والتوثيق التاريخي
يُعد “التدوين التاريخي” من المعارف الإنسانية الهادفة والذي من خلاله يتعرف الشعوب والمجتمعات على ماضيها وتاريخ البشرية عموماً.
التدوين التاريخي تعريفاً هو عملية كتابة الأحداث والوقائع التي مرت أو تمر بها الأمم والمجتمعات، ومعرفة أسباب حدوثها واستخلاص النتائج والحِكم منها، ويسمى ذلك بـ “التأريخ”، كما يطلق على المدون والباحث والكاتب في التاريخ صفة “المؤرخ”.
ورغم ما يثار من تساؤلات فيما إذا كان التاريخ علمٌ أم فنٌ أدبي، إلا أن المنطق القائم عليه يشير إلى أنه أقرب إلى العلم، فرغم أن لا قوانين ثابتة له، إلا أنه يخضع للنقد والبحث والتمحيص، كما أنه يستند إلى أدلة ووثائق وسجلات مادية.
وباختصار يهتم علم التاريخ بتدوين وتفسير الأحداث والظواهر التاريخية البشرية بهدف فهم الماضي؛ لإفادة الحاضر، والتخطيط للمستقبل. ويرتبط بعلمي الآثار والتوثيق بشكل خاص، كونهما توفران للمؤرخين الأدلة والوثائق اللازمة لتدعيم آرائهم ونظرياتهم ورؤاهم في الظواهر والوقائع التاريخية. إضافة إلى ارتباطاتها وتكاملها مع العلوم والمعارف الإنسانية الأخرى كالفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع…الخ.
أما التوثيق التاريخي فهو عملية تسجيل وحفظ وتنسيق وتبويب البيانات والوثائق والصكوك وسجلات الأرشيف الرسمية من خلال وسائط متعددة كالأوراق والمطبوعات والمرئيات وغيرها. وتمثل بنك معلومات أو أرشيف تاريخي أو ذاكرة محفوظة للأمم.
وقد ظهرت فكرة التدوين والتوثيق التاريخي منذ القدم، حين رسم الأجداد القدامى للبشر الحاليين – خاصة في منطقة ما بين النهرين وشمال مصر – أشكالاً ورموزاً في الكهوف التي يعيشون فيها وكذلك الكتابة على الصخور وأوراق البردي بغية تسجيل الوقائع العظمى في زمانهم ونقلها إلى الأجيال اللاحقة لهم. ومن ثم تطورت أعمال التدوين والتوثيق التاريخي فيما بعد، وظهرت في القرون الأولى بعد الميلاد كتب تاريخية وان كانت على شكل تسجيل وقائع وأحداث، وعرف من المؤرخين الأوائل اليوناني “هيرودوت”.
وقد أحدث “ابن خلدون” تطوراً إيجابياً في علم التاريخ، فأرجعه إلى سياقه الاجتماعي وظهر مع أفكاره مصطلح “فلسفة التاريخ”. يخلص ابن خلدون إلى (أنَّ التاريخ أصيلٌ في الحكمة وعريقٌ، ولما كانتْ الحكمة أسمى مراتب المعرفة، وبالتالي فإن فهم التاريخ ضرورةً حضاريَّةً لفهم الإنسان من خلال تاريخه، فما الحكمة سوى المرتبة العليا في مجال المعرفة، والمعرفة الحقة هي معرفة الإنسان بذاته).
إن للتدوين والتوثيق التاريخي أهمية كبرى لدى الأمم والشعوب، والأمة التي لا تهتم بذلك تتعرض في مسار تاريخها للتشويه والتهميش وفقدان الذاكرة، وتصبح لقمة سهلة لقوى الاحتلال والاستعمار، ولخطر الإبادة العرقية والثقافية. فالسكان الأصليين الذين أبيدوا في قارة أمريكا أطلق عليهم من قبل الغزاة والمنتصرين عليهم اسم “الهنود الحمر” ولم يتمكن من بقي على قيد الحياة من هؤلاء من تصويب التشويه الحاصل بحقهم لافتقارهم إلى إرث مادي مكتوب. وبسبب ذلك أيضاً يتعرض بعض شعوب الشرق الأوسط للتهميش والتشويه الهوياتي، كما هو حال الكرد، فحاولت الشعوب المجاورة لهم تنسيب أصولهم لهم في مسعى لإذابة الكرد في بوتقة تلك الشعوب. كما عمل الغرب الرأسمالي باسم “الاستشراقية” على إرسال بعثات تبشيرية تمكنت من تفتيت الشعوب المسيحية في المنطقة، وأرسلت بعثاتها للكشف عن المواقع التاريخية والأثرية، ليتعرض المنطقة إلى نهب وسرقة وتشويه تاريخي متعمد من الغرب الرأسمالي حيث جرى نقل عشرات الآلاف من القطع الأثرية والتاريخية إلى متاحفها وربما إلى أماكن سرية، لتتمكن من التلاعب بالوقائع والسجلات القديمة وإطلاق نظريات تاريخية مزعومة ومنها الأصول الهندو- أوروبية لبعض الأقوام العريقة في منطقة ما بين النهرين (ميزوبوتاميا).
في سوريا جرت محاولات حثيثة طوال العقود الماضية – ولاتزال- لنسب الحضارات القديمة والتي ظهرت في سوريا والعراق إلى عنصر عرقي بعينه، بدلاً من التفاخر بالموازييك القومي والثقافي الموجود منذ آلاف السنين في المنطقة، وهو ما ولد أفكاراً غير صائبة ومتطرفة في بعض الأحيان تجاه الشعوب والطوائف السورية.
وبعد التحولات الجارية في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا منذ عام 2012م، صدر عقد اجتماعي مشترك بين شعوب وطوائف المنطقة، أقر فيه مبدأ التعايش المشترك والاعتراف بكافة الثقافات واللغات المحلية وحرية النشر. ورغم الأجواء المنفتحة في شمال وشرق سوريا راهناً لا يتوافر أي مركز أو مؤسسة معنية بالدراسات التاريخية وبالتدوين والتوثيق التاريخي، رغم الحاجة الضرورية لها في سياق إعادة النظر بتاريخ المنطقة وشعوبها لمعالجة التصورات والآراء والأفكار المشوهة، وكتابة التاريخ من جديد، ولكن هذه المرة بيد أبناء المنطقة.
ولأهمية موضوع “التدوين والتوثيق التاريخي”، فقد ارتأت هيئة التحرير في المجلة اعتمادها كملف للعدد الجديد (التاسع عشر)، إضافةً إلى أن العدد يحتوي على مواضيع ونتاجات أدبية أخرى قيمة، راجيةً من القراء الأعزاء الاستفادة القصوى والفائدة المرجوة.