قراءة في كتاب… في تاريخنا الفن والأدب لـ حسين شاويش – عبد الباري أحمه
لا يمكن قراءة هكذا كتاب من خلال صفحات قليلة لما له من أهمية كبيرة من الناحية التاريخية واللغوية والاجتماعية، فمن خلال عناوين مهمة يتناول حسين شاويش أهمية الفن والأدب في تاريخ الكرد، من خلال مقدمة قصيرة بكلماتها ومهمة بمحتواها يؤكد لنا شاويش بأن (الفن إبداع معنوي، وتجديد وإنشاء وبناء وانبعاث، خلق وروعة وجمال، الفن معرفة لا نهاية لها، تنوير إلهي وكشف للأسرار، حل وفك لرموز الحقيقة) هل نجد تعريف للفن أجمل وأرق مما عرفنا به الكاتب، وكأنه يقول لنا إن الفن هو مسيرة الإنسان منذ خلقه وحتى الآن وهو صيرورة لكل أجزاء حياته وترحاله وتنقلاته وهجراته واستقراره في الكهوف والأكواخ ومن ثم المدن.
ويرى بأن الأدب مشتق من التربية وبقيم جمالية كسلوك يومي وإطار أخلاقي لأنه أي الأدب مرتبط بحياة الأفراد الاجتماعية، والمراد من كل هذا أضفاء صفة الإغناء على حياة الشعوب ونشر السلام والمحبة بين المجتمعات، ويضيف أيضاً بأن للأدب علاقة وثيقة بالسياسة ويتداخل مع الأيديولوجيا في كثر من المراحل، وأحياناً كان يأخذ لنفسه طريقا مستقلا في أوقات ما.
ومن خلال صفحات هذا الكتاب يعرفنا حسين شاويش إلى (مصادر الفن والأدب ووظيفتهما في الحياة الاجتماعية) حين يبدأ من المراحل الأولى لحياة الإنسان مؤكداً لنا بأن ذاك الفرد لم يكن يدرك معنى الفن والعلم والفكر بل وحتى الدين، إنما كان يعتمد على السحر، وفي المراحل التالية باتت للموسيقا والرقص والغناء مجاله الخاص، وكانت تسخر للرجال القادة وتمجيدهم، ويوضح لنا بأن الإنسان لم يكن يعرف مواطن النقص والتحليل في حياته فكان يلجأ للمسرح (كان المسرح عبارة عن عملية تقليد لا أكثر) وقد سخر هذه الفنون في كل مفاصل حياته، وما احتفال الكرد بعيد النوروز إلا جزءاً من عبادة الآلهة، فكانت شعوب المنطقة تحتفل بكل صخب في الشتاء يقيناً منها بأن الربيع سوف يأتي جميلاً، كل هذه الطقوس كانت بسبب جهل الإنسان بأسرار الطبيعة والكون فكان يلجأ إلى هذه الطقوس كي يطرد النحس، ولم يكن يدري بأنه يعمل في إبداع وخلق القواعد الأولى للفن والموسيقا والمسرح.
يتطرق الكاتب لمنطقة كردستان (ميزوبوتاميا) وأهمية الأدب والفن فيها، ويربطهما بالأساطير والملاحم والقصص والمعتقدات، والكرد جزء من شعوب المنطقة ولهم تأثير واضح في أدب وفن المنطقة، ومن خلال قصة سيدنا إبراهيم وملحمة جلجامش ورستم زال وفرهاد وشيرين وغيرها تشكل إرثاً تاريخياً لكل الشعوب، ولا ينسى بأن تراتيل وترانيم زرادشت من أهم مصادر الأدب والفن في كردستان.
وبعد دخول الإسلام المنطقة تطور الأدب والفن عند الكرد من خلال البيوتات الدينية وبات أدباً كتابياً من خلال رجال الدين وهم أنفسهم كانوا أدباء تلك المرحلة (أحمد خاني ـ فقه تيران ـ ملايه جزيري) وغيرهم، أما الأدب الشفاهي فقد تطور من خلال غناء الرواة، وتمثلت في هذه الأغاني كل الخصوصية اللغوية والثقافية للكرد.
من جانب آخر يتطرق الكاتب لمعرفة الأسطورة (تعني حكاية أو قصة الآلهة المقدسة) وهي وسيلة لنقل ونشر تعاليم الأديان وطقوسها، وليس بخاف على أحد بأن الدين والأسطورة وجهان لعملة واحدة من خلال التداخل العجيب بينهما من خلال الإله المقدس أو الملك المقدس، أما من لا يعتقد بذلك فهو متهم بالكفر والزندقة، ومن هنا لاحت في الأفق معالم الخير والشر بين الناس.
كانت منطقة ميديا من قبل بحراً من الثقافات (الهورية والميتانية والكوتية) وغيرها الكثير الكثير، ولكل مجموعة بشرية ثقافة وأدب وفن وبهوية خاصة، وقد استفاد الميديين من هذا الموروث المجتمعي وأضافوا عليه وطوروه في كل المجالات من العمران إلى الأدب والفن (أكباتانا ـ همذان الحالية) وفي العصر الإسلامي كانت عقيدة الكرد الزرادشتية، الدين الجديد (الإسلام) غير من مفاهيم الكرد ومعتقداتهم وذهنيتهم وفلسفتهم، وفي المرحلة الأخيرة من العصر العباسي ظهرت حكومات وإمارات كردية (بوطان وأردلان وبابان وبهدينان) ومن خلال هذه الاستقلالية النسبية تقدم الأدب الكردي خطوات مهمة بعد استخدام الحرف العربي بالكتابة، لقد تناول الأدباء والشعراء نقد الطبقة المسيطرة (الإقطاع) ومن جانب آخر غلبت عليه النزعة الرومانسية والتصوف.
تناول حسين شاويش في صفحات كتابة مواجز من حياة بعض الشعراء والأدباء، فقد تطرق لحياة مجموعة شعراء منهم:
بابا طاهر همداني 935ـ 1010 ميلادي الذي يعد من الأوائل في الأدب الكردي، ويعد من أركان الأدب الفارسي وصبغ أدبه في العشق الإلهي.
ويعرفنا إلى شاعر وملحمي وقصصي من هكاري ملاي باتي 1414ـ 1495 له ملحمة شعرية عن ميلاد الرسول الأعظم محمد، وقد أبدع في الملحمة الكردية الشعبية أجمل أبداع (زمبيل فروش).
أما الشاعر علي حريري الذي كتب باللهجة الكرمانجية ويعتبر من أهم شعراء الكرد الكلاسيكيين حين كتب أشعاره في العشق الحقيقي ـ عشق الحقيقة المثلى).
وحين يعرفنا شاويش إلى ملاي جزيري 1570 ـ 1645 الزاهد والمرتبط بالعشق الإلهي، كونه الباحث عنها دائماً ويجد في العشق أعظم وأقدس الأمور في الحياة، لهذا تناول الامراء في شعره متناسياً المال والموائد الدنيوية الزائفة.
فقه تيران… 1590ـ 1660
ما يميز هذا الشاعر عن أغلب شعراء المنطقة وحتى العالم أنه أتبع أسلوب الحوار مع الطبيعة والطيور والماء، من جانب آخر كان يناصر الفقراء والمساكين ويفضل (الحرية والشعر والأدب عل السلطة والتكبر)، له مجموعة دواوين منها (يا ماء يا ماء).
أحمد خاني..
بحسب تقييم المستشرقين الروس الذين صنفوا هذا الأديب والشاعر من الثلاثة الأوائل في الشرق، وقد اكتسب صفة أمير شعراء الكرد (يعتبر خاني ثورة في الأدب الكردي) لأنه سخر أدبه في خدمة مجتمعه والاهتمام بالوضع الطبقي والحياة السياسية، لقد أبدع في (ملحمة مم وزين)، كونه وضح فيها شخصية الإنسان الكردي بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والنفسية، وما يجعلنا نقدر خاني أن أسلوبه ومدرسته ما زالا لها تأثيرهما حتى يومنا هذا.
علي ترموخي..
مثله مثل أغلب شعراء وأدباء الكرد نهل علومه من المدارس الدينية في منطقة الموصل التي تأثرت بآداب (ميزوبوتاميا)، اهتم وكتب في اللغة والقواعد عند الكرد، له (الياقوت والدرـ أبناء الوطن) وغيرهما.
يختتم حسين شاويش كتابه عن أهمية الأديب والفنان في الحياة الاجتماعية والسياسية في الواقع الكردي، ويبدأ من الآن، وينتقد دورهما الذي لم يرتق إلى سوية اللحظة التي يعيشها الكرد، سوية التغيير والتحول المميزتين وخاصة في غرب كردستان، ويجد بأن الذين (يدعون أنفسهم بالشعراء والأدباء والفئة المثقفة أكثرهم تهربوا من مسؤولياتهم) لأنهم ضمير المجتمع وذاكرة التاريخ ومن واجبهم تجسيد وتدوين معاناة وانتصارات شعبهم، لأن ثورة روج آفا ما زالت مستمرة بمحاربة الإرهاب وكل المرتزقة، من أجل الحرية والديمقراطية.
ويودعنا حسين شاويش في الصفحات الأخيرة من كتابة ينبه المتابع عن قضية مهمة وهي (الوعي التاريخي للغة والثقافة الكردية) ويؤكد لنا بأن هذه اللغة من نتاج العصر النيوليتي أثناء الثورة الزراعية التي كانت المرأة تقودها، وتمتد إلى العصر الحوري ومن ثم الميتاني مروراً بالميدي، وكانت اللغة الآفستية لغة دين وفلسفة زرادشت، وما زالت بعض كلماتها متداولة بين شعوب المنطقة حتى الأن.