إيران: تسيّد لغة وسحق لغات! – يوسف عزيزي
عام ١٩٢٥ يُعد نقطة فاصلة في حياة الشعوب التي كانت تعيش تحت راية الدولة القاجارية حيث تحول نظام “الممالك المحروسة” – المنصوص عليه في دستور عام ١٩٠٦ – الى نظام شعاره “شعب واحد، دولة واحدة، لغة واحدة” وهو ما أعلنه رضا خان القزاق في بيان الانقلابيين الذين اطاحوا بالدولة القاجارية في العام ١٩٢١والذي تُوج ملكا على إيران باسم الشاه رضا البهلوي، بعد أربع سنوات من ذلك الانقلاب المشؤوم والمدعوم بريطانياً. كان نظام الممالك المحروسة قائماً منذ الحقبة الصفوية في القرن السادس عشر ويمكن وصفه بالنظام الفيدرالي التقليدي او ما يشبه الكونفدراسيون ويشمل ست ممالك: (عربستان، لورستان، كردستان، آذربيجان، جيلان، خراسان)؛ وبالطبع كان يضم عدة ولايات وإيالات الأقل أهمية من الممالك منها (فارس، أصفهان، كرمان). اذ كانت تلك الممالك تتمتع بحكم ذاتي وسيع خاص بها تستخدم فيه لغتها وثقافتها القومية. نؤكد هنا أنها لم تكن ولايات أو إيالات أو محافظات بل “ممالك” أي كل واحدة منها “مملكة”، حولها الشاه رضا البهلوي (حكم إيران بين عامي 19٢٥-١٩٤١)، وهو أبو الشاه المخلوع في ثورة شباط/ فبراير ١٩٧٩، إلى محافظات كي يحقر شعوبها.
فالحقد البهلوي تجاه العرب كان مشفوع أيضاً بدوافع عنصرية حيث حول اسم مملكة عربستان الى “محافظة خوزستان” التي لم يعترف الشعب الأهوازي بهذا الاسم المفروض رغم مرور تسعة عقود، لكنه أبقى على أسماء بلوشستان وكردستان ولورستان وجيلان وآذربيجان والبختياري كدلالات على وجود قوميات بهذه الأسماء.
فمن خلال تتبعي فهمت من الباحثين الكرد أن بلاط عائلة أردلان في مملكة كردستان كان يستخدم اللغتين الكردية والفارسية، خاصة في مراسلاتهم مع حكام طهران، وأكد لي دارسون آذريون أن اللغة التركية الآذرية والفارسية كانتا الرائجتان بين حكام مملكة آذربيجان، فيما كانت اللغة الرسمية في عربستان، اللغة العربية فقط منذ تأسيس الدولة المشعشعية المستقلة في ١٤٤٠م وحتى سقوط الأمير خزعل اخر حاكم لمملكة عربستان – ذات الحكم الذاتي الواسع – في ١٩٢٥.
اللغات غير الفارسية في العهدين البهلوي والجمهوري
يمكننا القول أن الشاه رضا البهلوي وبإلغائه نظام الممالك المذكورة آنفاً وإسقاط قادتها واغتيال البعض منهم، حرم الشعوب غير الفارسية من سلطتها السياسية والاقتصادية السابقة وفرض حظراً على لغة هذه الشعوب وثقافتها، بل وسعى لتفريسها، واستمرت الجمهورية الإسلامية على هذا النهج التمييزي والقمعي كوريثة للنظام الشاهنشاهي. لقد أصبحت اللغة الفارسية اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد ولم يسمح بنشر الكتب إلا بهذه اللغة، باستثناء الفترة القصيرة لحكم جمهورية مهاباد وسلطة الحكم الذاتي في آذربيجان في أواسط الأربعينيات من القرن المنصرم.
بعد الاحتلال العسكري لمملكة عربستان – أو إمارة المحمرة كما يصفها عرب الجوار – في ١٩٢٥ قام الشاه رضا البهلوي بمجازر ضد الأهوازيين وقام بحظر اللغة العربية في المدارس، إذ حول المدارس العربية في العاصمة المحمرة، وكذلك مدرستي الجاسبية والخزعلية في مدينة الأهواز إلى مدارس بأسماء ومناهج دراسية فارسية فقط. ومنذ ذلك الحين أصبح الأدب والفولكلور العربي الأهوازي والكردي والآذري والبلوشي والتركماني منبوذاً ومهمشاً وممنوعاً في وطنه لم يجد ملاذاً إلا قلوب الأمهات وزوايا البيوت بعيداً عن عيون العسس والبوليس السياسي.
ثورة شباط/ فبراير ١٩٧٩ التي أدت الى سقوط الشاه محمد رضا البهلوي سددت ضربة قوية للخطاب القومي الفارسي ومنحت الشعوب غير الفارسية الأوكسجين الضروري كي تنقذ جسدها من ركام الخطاب الشوفيني البهلوي، لكن سرعان ما همش رجال الدين المؤدلجين أبناء الشعوب وقتلوا ونفوا قادتهم وقمعوا حركاتهم المطالبة بالمساوات والتنمية اللغوية والثقافية والاقتصادية المتكافئة لكل أصقاع إيران. غير أن زخم الحراك اللافارسي لم يخفت رغم شلالات الدماء التي اُسيلت في عربستان وكردستان وبلوشستان وآذربيجان وتركمن صحراء؛ ليس لسبب إلا لأن حجم الثورة التحرري كان أكبر من أن تخنقه البورجوازية الدينية التقليدية المتخلفة فكرياً وثقافياً. وقد استغلت نخب هذه الشعوب، تناقضات الأجنحة المتصارعة في السلطة الدينية كعهد خاتمي (١٩٩٧-٢٠٠٥) مثلا لنشر كتبها وصحفها بلغاتها القومية وتشكيل مجموعات قصصية وروائية وشعرية غير رسمية وإقامة صفوف خاصة غير رسمية لتعليم لغتها الأم وما شابه ذلك من أنشطة ثقافية. ولم ينقطع هذا النشاط حتى الآن، رغم قلة الإمكانات والاعتقالات والمضايقات التي تفرضها السلطة الشمولية على هذه المجاميع الثقافية، غير أن الثورة الرقمية حدت من قدرة هذه السلطة في القضاء على مثل هذا النشاط. فالكتاب الذي تمنعه الرقابة الحكومية، يصدر بشكل بي دي اف ويقرأه الألوف باعتباره ممنوعاً حيث شهدت الساحة الأهوازية نشر كتب ممنوعة حتى في العالم العربي كـ “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ و”الخبز الحافي” لمحمد شكري.
وقبل عام نشرت وكالة ايسنا للأنباء عن مسؤول في وزارة الثقافة الإيرانية أن ٢٠٪ من الكتب الصادرة في إقليم آذربيجان هي باللغة التركية الآذرية و٢٥٪ من الكتب الصادرة في كردستان باللغة الكردية والباقي بالفارسية. لم يعلن المسؤول الإيراني عن نسبة الكتب العربية في إقليم عربستان الأهواز لكن الإحصائيات غير الرسمية التي تصلني من هناك تؤكد ان هذه النسبة تبلغ نحو ٣٠٪؛ إذ كان يجب ان تكون النسب معكوسة أي تكون الحصة الأصغر للكتب الفارسية في مناطق القوميات غير الفارسية. فهذا يؤكد إن شعوبنا رغم أنها لم تتمكن من الحصول على ما كانت تطالب به من حكم ذاتي في أوائل الثورة ورغم كل المذابح التي ارتكبت ضدها لاتزال حية وتناضل من أجل الحفاظ على لغتها وثقافتها وهويتها.
ونشاهد اللاتكافؤ الصارخ في توزيع الإمكانيات والميزانيات الخاصة بالنشاط الموسيقي والمسرحي والسينمائي والفنون التشكيلية الذي يخصص معظمها للأقليات الناطقة بالفارسية في مناطق القوميات غير الفارسية وهذا ما نشاهده في إقليم عربستان (الأهواز) التي تعمل دوائر وزارة الثقافة على تهميش وخنق الموسيقى العربية والمسرح العربي وسائر الفنون القومية الأخرى هناك.
اللغة والتطور
عندما يدخل الطفل العربي أو الكردي أو التركي أو البلوشي إلى المدرسة الابتدائية في إيران يواجه لغة – فارسية – غريبة على بيئته الأسروية، لغة اجنبية غير مفهومة له يجب أن يتعلمها ويترك لغته الأم خارج جدران الصف. وهنا على الطفل غير الفارسي أن يتعلم مقولتين اساسيتين: الأبجدية، والنحو، فيما يتعلم قرينه الفارسي مقولة واحدة فقط وهي النحو. ومن هنا يتعرض الطفل غير الفارسي لصدمات نفسية، نادراً أن يتمكن من التخلص منها طول حياته. ومنذ تلك الانطلاقة المصيرية يتأخر تلاميذنا في مباريات الحياة قياسا بالتلاميذ الفرس. وبذلك يفرض النظام التعليمي الفارسي في إيران على الأطفال من غير الفرس، نوع من التخلف اللغوي والثقافي يهيأ الأرضية للاضطهاد القومي والعرقي. لقد نشرت قبل سنوات إحصاءً يفيد أن هناك تسرب من المدارس الابتدائية يبلغ ٣٣٪ من التلاميذ الأهوازيين، يصل إلى ٥٠٪ في مرحلة الثانوية و٧٠٪ في مرحلة الإعدادية والسبب هو التعليم اللامتكافئ لغوياً وعدم التعلم بلغتهم الأم العربية.
ويواجه موضوع التعليم الابتدائي باللغات غير الفارسية معارضة عنيدة ليس فقط من قبل جهات فاعلة في الحكومة الإيرانية بل حتى في أوساط معظم المثقفين والمؤسسات الثقافية والمدنية التي يهيمن عليها القوميون الفرس في طهران كمركز اللغة الفارسية وأحزاب كالجبهة الوطنية المصدقية، ولهذا لم يتم حتى اللحظة تطبيق المادة ١٩ من الدستور الإيراني التي تقضي بالتعليم باللغات غير الفارسية الى جانب الفارسية في المدارس، رغم مرور ٤٢ عاماً على المصادقة على هذا الدستور.
بعد سقوط الإمبراطورية الساسانية لم تشهد إيران التي حكمها العرب ومن ثم الترك مثل هذا الاحتكار اللغوي، حيث كانت اللغة العربية لغة العلم والدين، واللغة التركية لغة العسكر والبلاط، واللغة الفارسية لغة الأدب في عهد السلالات التركية الحاكمة التي استمرت لعشر قرون وانتهت في ١٩٢٥. وقد تسيدت اللغة الفارسية بعد صراع مديد بين المكونات القومية في الإمبراطورية الفارسية، وذلك إثر هيمنة الأسرة البهلوية والقومية الفارسية على السلطة كاملة وبدعم أجنبي وعلى خلفية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة. وقد كون هؤلاء دولة مركزية حديدية مستمرة حتى اللحظة، غير أن هذه الهيمنة ستزول بانهدام هذه المركزية وهي أساساً ظاهرة جديدة في تاريخ وجغرافية هذه الشعوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يوسف عزيزي: كاتب وباحث وصحفي عربي من إيران، من مواليد عام 1951 في مدينة الخفاجية بإقليم عربستان (الأهواز)، خريج كلية الإدارة – جامعة طهران، عضو مؤسس لاتحادي الكتاب والصحفيين الإيرانيين، تعرض للاعتقال في إيران في 2005م لانتقاده سياسات النظام تجاه الشعب العربي الأهوازي، عمل مراسلاً ومحرراً وكاتباً في العديد من الصحف العربية، صدر له حتى الآن 25 كتاباً (في مجال القصة القصيرة والدراسات حول عرب الأهواز وترجمة الكتب الأدبية والفكرية من العربية إلى الفارسية) إضافة إلى مئات المقالات باللغتين الفارسية والعربية، وقد تُرجمت بعض آثاره إلى اللغات التركية والإنكليزية والإيطالية والألمانية. وهو عضو فخري في رابطة القلم البريطانية (انجليش بن).