أيديولوجيا حرية المرأة ــ بشرى علي
الأيديولوجيا، أو الفكر الاستراتيجي المنظّم، هي إحدى الظواهر التي تزامنت مع ظهور التحول المجتمعي والحياة الاجتماعية، والتي ميزت الإنسان عن باقي الكائنات الحية ومكَّنت أنسنته ورقيه. فحراك الإنسان على شكل مجموعات، وتنظيمه لشؤون الحياة اليومية، واختراعه الأدوات، ونقله للمعارف إلى الأجيال اللاحقة، واكتشافه الزراعة؛ كل ذلك قد أبرز معه شكلاً للحياة الاجتماعية، إذ يرتقي فيها الإنسان على باقي الكائنات، ولكنه لا يكون فوقها أو متحكماً بها، بل يظل على تناغم ووئام معها.
لا ريب في أن كل ذلك قد حمل هوية المرأة الأم وبصماتها، أي أن المرأة هي صائغة الهوية الأيديولوجية للحياة الاجتماعية بكافة مجالاتها وميادينها، وهي صاحبة الاكتشافات والبدايات التاريخية. ولذلك تميزت بمكانتها المقدسة إلى درجة الألوهية في غابر الأزمان.
بمعنى آخر، فإن الهوية الأيديولوجية للمجتمع الطبيعي هي أيديولوجية أمومية تشاركية تعددية خلاّقة، أي أنها هوية خالية من التحكم أو الاستعباد، ومشحونة بالمساواة والعدل. لكن، ومع ظهور ثنائية “الرجل الحاكم- المرأة المحكومة” وبروز ظواهر الدولة والتمايز الطبقي والهرمية، بدأ سقوط المرأة وانحدارها تدريجياً نحو الحضيض. فكانت الهوية الأيديولوجية الأمومية هدفاً أساسياً ومحورياً للرجل القوي والشامان الخبير وحاشيتهما “العسكرية”. إذ تطلع هذا الثلاثي إلى الاستيلاء على كل ما يمتُّ للمرأة الأم من اكتشافات واختراعات كانت تسمى الـ”ماءات”، وسرقتها واحتكارها، ثم تأسيس وتكريس ومأسسة أيديولوجيا “الذهنية الذكورية” السلطوية اعتماداً عليها وعلى حساب المرأة تماماً.
الانكسار الأول الأكبر ضد المرأة:
بالإمكان تسمية ذلك بالانكسار الأول الأكبر ضد جنس المرأة، أي ضد هوية المرأة وأيديولوجيتها وثقافتها وإرادتها. إذ تتحول المرأة من ذات فاعلة إلى موضوع شيء، ومن “إنسان” مؤثر إلى “الآخَر- النكرة”. وتبدأ بذلك عبودية المرأة لتشمل معها تدريجياً عبودية الأطفال والشباب والرجال بالتسلسل، أي لتسري على المجتمع بأكمله. وهكذا تستشري ظاهرة المجتمع الذكوري الرمادي الجامد والباهت. وتتفشى ظاهرة العطالة ونبذ الكدح، والطمع في المزيد من الربح بأقل مجهود، وتكديس المال عبر المال، وغيرها الكثير من ظواهر راهننا المَرَضية التي صَيَّرَت العيش لا يطاق، وجعلَت الطبيعة تدقُّ نواقيس الخطر..
ومن حينها والصراع الأيديولوجي هذا قائم على قدَم وساق ضد هوية المرأة، بهدف تهميشها، وتجريدها من كينونتها، وإغراقها في الظُّلُمات الدامسة تحت مُسمَّيات مختلفة التحَفَت في نهاية المطاف اسمَ المدنية والتمدن. ومن حينها ازدادت الهوّة بين الذكاء التحليلي (الذكوري) والذكاء العاطفي (الأنثوي)، فازداد بالتالي اختلال العالَم، والذي وصلَ مؤخراً إلى مستوى الفوضى العمياء المتجسدة في “الحرب العالمية الثالثة” المندلعة في منطقة الشرق الأوسط بهدف تقسيم المقسَّم وتجزيء المجَزَّأ وتفتيت المفتَّت.
ضرورة نضال المرأة:
مقابل كل ذلك، لا بد من التطرق إلى النضالات العتيدة والكفاحات الباسلة التي ناهضت الذهنية الذكورية منذ البداية وحتى اليوم، وخلَّفت وراءها إرثاً نسائياً نضالياً زاخراً يزداد غنىً واتساعاً في راهننا. وبطبيعة الحال، فليس صعباً التبيان أن المرأة تمثل على صعيد هويتها الأيديولوجية طاقةً تاريخية واجتماعيةً هي الأكثر ديناميكية وحيوية من ناحية الجوهر التحرري الذي تحتويه.
إلا أن مستوى مواجهتها للفوضى المستشرية في العالَم يتعلق مباشرة بوجهة نظرها للأمور، وبرؤيتها لمسار الأحداث، وبتعريفها للقضايا، وبمدى معرفتها لذاتها. ذلك أن كل ذلك يشكل الشروط المحورية للبدء بخوض النضال ضد الظواهر التي كرست استعبادها وعبوديتها منذ آلاف السنين. وكل خطوة على هذا الدرب تُعد بمثابة الشرارة التي تؤجج النضال النسوي وتُصَعِّده على درب حرية المرأة.
بالمقدور القول أن القرنين التاسع عشر والعشرين عموماً، والقرن الحالي، أي الحادي والعشرين خصوصاً، مليء بمثل هذه الخطوات النضالية النسائية، بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، وبكل ما نجم عنها من تقدم ملحوظ أو تَعَثُّر لا يُستَهان به. وهنا بالذات تنفرد حركة حرية المرأة الكردستانية بقراءتها الأقرب إلى الموضوعية والشاملة والمتكاملة المرتكزة إلى استنباط الدروس من كل هذه التجارب والكفاحات التاريخية والراهنة بهدف إغنائها والرقي بها. فإلى جانب الكفاح القومي والصراع الطبقي والنضال الثقافي والاجتماعي الذي تخوضه حركة حرية المرأة الكردستانية، فإنها تطمح إلى تعبئة ذاتها والتأهب من كل النواحي لترك بصماتها على القرن الحالي بهوية المرأة وبإرادتها وفكرها، أي بأيديولوجيتها.
نضال حركة حرية المرأة الكردستانية:
لكل سنة من سنوات النضال الشاق والعتيد الذي خاضته حركة حرية المرأة الكردستانية أهميتها وخصوصياتها. إذ شهدت الحركة بدايات تاريخية على غرار البدايات التي شهدتها البشرية في فجر التاريخ وعلى نفس البقعة الجغرافية (ميزوبوتاميا). فلأول مرة بعد آلاف السنين من العبودية القاسية بدأت المرأة بتحطيم الجدران التي تحيط بها، وتخترق الظلام الدامس الذي يلفها ويُطبِق على أنفاسها كما القبر. فبدأت بذلك تتعرف على ذاتها، وتنفض الغبار عن قدراتها وطاقاتها، وتحلل ذاتها وتصقل شخصيتها، وتحقق التوازن النموذجي بين ذكاءَيها العاطفي والتحليلي.
إلا أن سنة 1998 تنفرد عن غيرها من السنوات. ذلك أن المستوى الذي وصلته الحركة من جهة، والإرث النضالي المتراكم كمياً، والخطوات النوعية التي خطَتها حتى ذاك العام، قد حتَّمت تحويل كل ذلك إلى نقلة نوعية جديدة بمستوى أرقى. وقد تجسدت هذه الخطوة في إعلان “أيديولوجية حرية المرأة”.
أيديولوجية حرية المرأة:
فكيفما تطلع أوجلان إلى تحقيق حملة استراتيجية على الأصعدة السياسية والعسكرية والتنظيمية والعلمية والفلسفية والمعنوية في “حزب العمال الكردستاني PKK” عن طريق تأسيس “اتحاد حرية المرأة الكردستانية YAJK”، وكيفما رأى هذا الاتحاد سلاحاً فعالاً لتحويل المرأة إلى إرادة نافذة، ولحَثِّها على تطوير آفاقها وشحذ ذهنها وقدراتها بلا حدود من أجل تتويج الثورة بالنصر الحقيقي؛ فبإعلان “أيديولوجية حرية المرأة” أراد أوجلان التوجه بقضية حرية المرأة قدُماً نحو الأمام وبصورة قياسية وغير مسبوقة.
ففي عام 1998، وبالتحديد في الثامن من آذار، والذي يصادف الذكرى السنوية لليوم العالمي للمرأة، أعلن أوجلان عن “أيديولوجية حرية المرأة” كأثمن هدية يمكن إهداؤها إليها في هكذا مناسبة مباركة، وعربوناً للتوجه بنضالها نحو الآفاق العالمية. وبذلك انفرد القائد الكردي أوجلان بكونه أول قائد اشتراكي يطرح هكذا فكرة استراتيجية غير مسبوقة. فكانت هذه من أهم الخطوات التي مكَّنت المرأة الكردية من الاستعداد لكل الاحتمالات المستقبلية والتحلي بالآفاق الخلاّقة والحديثة وبالدينامية الكافية للنفاذ من الفوضى المرتقبة. فبذلك فقط يمكن التغلب على الجنسوية الاجتماعية المستشرية في العالم، والتوجه بسداد وثبات نحو تأسيس الحياة المستقبلية الحرة في خضم الزوابع الفوضوية التي بدأت تعصف بالمنطقة.
لماذا أيديولوجية حرية المرأة؟
إن هذه الخطوة تعني التوجه قُدُماً بالمرأة نحو تمكين التوازن بين الذكاءَين التحليلي والعاطفي، وإضفاء لون المرأة المتناغم مع الطبيعة والكون بعد استرداد كل ما سُلب من المرأة فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية. إنها رفض راديكالي للواقع المنحطّ المفروض على المرأة. وتأكيد على ضرورة إعادة قراءة التاريخ بعين ثاقبة وسليمة، وعلى أهمية توسيع إطار الصراع وعدم حصره فقط بالمساواة الشكلية أو ببعض الحقوق. أي أنها إشارة إلى التركيز على الجذور التاريخية المتوغلة فيما يتعلق بقضية حرية المرأة، وإلى ضرورة صياغة الحلول الجذرية بما يتماشى مع ذلك.
وعليه، فإن أيديولوجية حرية المرأة لا تهدف فقط إلى تمكين المساواة بين الجنسين، ولا تُعنى فقط بتحرر جنس المرأة. بل إنها تتطلع إلى تأسيس ثقافة وذهنية جديدة مشبعة برؤية حديثة إلى الحياة. أي أنها القوة المحركة لأي تحول اجتماعي راديكالي، وللعودة إلى المجتمعية الأصيلة العريقة وتحديثها. بالتالي، فإنها تعني النضال ضد شتى أشكال ومؤسسات التسلط أو التحكم الذكوري قومياً وطبقياً وجنسياً وأثنياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وقانونياً، بدءاً من خلية العائلة وحتى مؤسسات الدولة، وانطلاقاً من مستوى البلد وحتى الصعيد العالمي.
بذلك فقط يغدو بالمستطاع تحقيق العدالة الاجتماعية واستتباب السلام والاستقرار وتكريس الوحدة ضمن الاختلاف. بمعنى آخر، فإن أيديولوجية حرية المرأة هي خطوة راديكالية على طريق تحديث الاشتراكية العلمية وإغنائها انطلاقاً من انتقاد نواقصها براديكالية جريئة. وعليه، فإنها أيديولوجية تتسم بالطابع الكوني العالمي بقدر اتسامها بالطابع المحلي.
المبادئ الأساسية لأيديولوجية حرية المرأة:
1- مبدأ الروح الوطنية:
فقبل كل شيء، لا يمكن تَصَوُّر أيديولوجية حرية المرأة بمعزل عن “الأرض، الوطن، البلد”. ذلك أن الثورة الزراعية الأولى التي شهدتها البشرية في فجر التاريخ كانت على يد المرأة. وعليه، فالمبدأ الأول لهذه الأيديولوجية هو أن تعيش المرأة على “أرضها”، والذي يوصَف بالتعبير الحديث بمصطلح “الروح الوطنية” ارتباطاً بآفاقه التاريخية والراهنة.
2- مبدأ الفكر الحر والإرادة الحرة:
إذ ينبغي على المرأة أن تشارك في الحياة تأسيساً على فكرها الحر وإرادتها الحرة. وهذا ما يعني ضرورة تحديد معاييرها الخاصة بها وبفكرها وهويتها ونضالها وحياتها، وأهمية ترجمة ذلك إلى إرادة نافذة وثوابت حاسمة ومشاريع مستقبلية وخطط ملموسة. وبالمقابل، ينبغي على الرجل احترام ذلك وتقديره، والاقتراب من المرأة وتنظيم ذاته أيضاً بموجب ذلك. وهذا ما سيشكل بالتالي سداً منيعاً أمام الزيف والرياء والخداع السائد في العلاقات الاجتماعية عموماً وفي العلاقات بين الجنسين خصوصاً.
3- مبدأ الحياة المنظمة التشاركية الحرة:
ولأجل تكريس الحياة التشاركية وفق معايير الحرية، فلا بد من تأسيس التنظيم النسائي الخاص وشبه المستقل. ذلك أن الإنسان غير المنظم هو مجرد “شيء”. وقد تَشَكَّل أول تنظيم اجتماعي في التاريخ على يد المرأة. وعليه، فمن الضروري ألاّ تبقى امرأة من دون تنظيم تنتمي إليه وتُنَمّي ذاتها فيه كأهم شرط للكفاح ضد كل مَن يسلب منها إرادتها وهويتها.
4- مبدأ النضال:
وانطلاقاً من الوعي المنَظَّم، يتبين أن حياة المرأة هي عبارة عن نضال وكفاح. ذلك أنه لم يتحقق حبس المرأة بين أربعة جدران، إلا بعد تجريدها من هويتها النضالية المنظمة والمؤثرة. وعليه، فمن الضروري تكريس النضال النسائي المنظم في كافة مجالات الحياة التي سُلِبَت من المرأة بعدما كانت رائدةً فيها. ولا يجدر بالمرأة إلا أن تكون ذاتاً فاعلة في كل الميادين دون استثناء، ولكن بطابعها هي، وبرؤيتها وإرادتها الحرة، وحسب خصوصياتها.
5- مبدأ العلاقة بين الحياة والجمال:
إذ من الضروري نسج وتكريس الحياة الجميلة خطوة بخطوة، لأنها حياة عظيمة ومقدسة وثمينة. والمقصود من الجمال هنا هو تحديد معايير السلوك والتصرف وفق علم الجماليات والفضيلة. فإذا كان جوهر الحياة الفاضلة يتجسد في الوعي الحر والتنظيم الرصين، فإن معايير الجماليات تعني ترسيخ ذلك إلى سلوكيات راقية ولغة فاضلة. وبذلك فقط يغدو بالإمكان استرداد الحب المفقود، وإعادة المضمون الأصيل إلى مصطلح “العشق”، وتمكين الاحترام المتبادل. وبذلك فقط تغدو الحياة جميلة فاضلة. بمعنى آخر، فالمقصود هنا هو التحلي بجمال الروح وانعكاس ذلك على الشكل والسلوك. وليس العكس. وبالتأسيس على ذلك تغدو الحياة مع المرأة جميلة، وتصبح العلاقة بين المرأة والرجل ثمينة.
النماذج النسائية المتناقضة مع أيديولوجية حرية المرأة:
ما من شك في أن توطيد أيديولوجية حرية المرأة وتجسيد مبادئها في الواقع العملي قد مر بمخاضات جدية. إذ ظهرت العديد من النماذج المتناقضة مع هذه الأيديولوجية انطلاقاً من الخصائص الذكورية التي تشبعت بها طيلة آلاف السنين. وعلى سبيل المثال وليس الحصر: فقد ظهر نموذج المرأة التي حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن هذه الأيديولوجية، بسبب تشبثها بالعادات التقليدية وتفضيلها لأشكال الحياة الكلاسيكية وعدم تنظيمها لذاتها أو تطويرها لفكرها بموجب معايير حرية المرأة. وهذا ما يدل على عدم التطلع إلى تجاوز النظام الذكوري المهيمن ذهنياً.
وهناك نموذج المرأة التي تعاني من الاغتراب عن ذاتها كأنثى، فلا تثق بالمرأة، ولا تقتنع بجدوى تحولها إلى قوة منظمة، بسبب القناعة الضمنية بأن الرجل هو القوة، وأن السلطة والتحكم والنفوذ هي ظواهر حكر على الرجل فحسب.
وهناك نموذج المرأة العاطفية اللاسياسية، التي لا تنظّم مشاعرها، ولا تُسَيِّسها، وبالتالي لا تضبطها، فتُصاب بالعنفوان الفوري أو بالإحباط المفاجئ، فتتحكم بها الأحداث بدلاً من أن تتحكم هي بها. وهذا دليل سطحية الوعي وسقم المعرفة التاريخية والاجتماعية والسياسية.
وهناك نموذج المرأة التي تتخذ من الحرية الفردية أساساً، دون ربطها بالحرية الاجتماعية. فلا تهتم بتكريس التنظيم النسائي الخاص، ولا تخوض الصراع تجاه ذاتها لتطويرها وصقلها، ولا تجسد بالتالي معايير الحرية الحقيقية في ذاتها أو في المحيط. وهذا ما يصبّ في نهاية المآل في خدمة رؤية النظام الذكوري السائد، ولا يخدم بالتالي قضية حرية المرأة، بقدر ما يكرس عبوديتها ولو من زاوية أخرى.
وهناك نموذج المرأة التي ترفض الرجل بفظاظة لمجرد أنه رجل، فلا تلتفت إلى الخصائص الذكورية المعششة فيها، ولا تكافحها للوصول إلى معايير المرأة الحرة. وبالمقابل، فإنها لا تحلل الرجل وفق الذهنية الذكورية، ولا تتطلع بالتالي إلى كيفية المساهمة في تمكين تغيّره وتحوله بنحو سليم وسديد.
علم المرأة والحياة
بعد أن اخترقت المرأة الكردية مجال الأمن والدفاع عن الذات والوطن، وشكّلت جيشها الأنصاري للمشاركة بفعالية ريادية في ذلك، وبعد أن شكّلت تنظيمها الخاص بها وشبه المستقل، وبعد أن تمحورت تراكمات نضالها في رؤية أيديولوجية تحررية نسوية معاصرة، وتجسدت هذه الرؤية في حزب نسائي خاص وشبه مستقل، وانتقلت بكل كياناتها هذه إلى منظومة نسائية جامعة، ثم إلى نظام نسائي كونفدرالي ديمقراطي جامع؛ طرح السيد أوجلان هذه المرة من معتقله الانفرادي في سجن إمرالي، والذي يقع وسط بحر مرمرة، مشروع “علم المرأة والحياة Jineoloji” ليمثل قمة هذه المحطات الاستراتيجية التي ما تزال تنتظر الدراسة والتعمق والإفادة منها إقليمياً ودولياً على السواء.
لماذا اصطلاح “علم المرأة والحياة”؟
يُكتَب هذا المصطلح باللغة اللاتينية على الشكل “Jineoloji”. ومفردة “Jin” باللغة الكردية تعني “المرأة”. وعندما تُكتَب بالكردية على النحو “Jîn”، أي بوضع ما يشبه القبّعة على الحرف “ı” بدل النقطة، فإن معنى هذه المفردة يصبح “الحياة”. أي أن كلمتَي “المرأة” و”الحياة” متطابقتان في اللغة الكردية. وربما يأتي هذا من ارتباط المرأة بالأرض والزراعة، ومن إنجابها الأطفال، ومن مشاركتها الفعالة في كافة مناحي الحياة في تاريخها العريق. ومفردة “loji” تعني باللاتينية “العلم”. وهكذا يتشكل لدينا اصطلاح “علم المرأة والحياة”.
هذا من الناحية الاصطلاحية. أما من الناحية النظرية، فإن السيد أوجلان يؤمن تماماً بأن المرأة هي محور الحياة، بل أنها الحياة بذاتها. فمن دونها لن يكون للحياة معنى. وأنها تمثل جوهر الإرادة والإبداع والروح الإنسانية النبيلة والضمير الجمعي العادل. ولأجل ذلك نجده يوطد أطروحاته جميعاً على حرية المرأة.
إذ ينوه إلى أن أطروحته الأخيرة المتجسدة في “نظرية الأمة الديمقراطية” هي أطروحة نسوية تحررية بامتياز، وأنها تتمحور حول حرية المرأة، وأنها تنطلق منها كي تحقق التحرر العام في المجتمع. ويشدد على أن أية ثورة لا تشارك فيها المرأة بفعالية، هي ثورة ناقصة، ومعرّضة في كل لحظة إلى أن تتحول إلى “ثورة مضادة” أو إلى الفشل والهزيمة أو إلى الانحراف عن مجراها.
أهمية “علم المرأة والحياة-الجينولوجيا”:
انطلاقاً من كل ذلك، فإن الأسس التي يرتكز إليها علم المرأة والحياة تتجسد باختصار في إعادة النظر في كل المصطلحات التي نتداولها في راهننا، لإعادتها إلى مضامينها الحقيقية والجوهرية. وذلك بحُكمِ أن التاريخ الرسمي المدون الآن هو تاريخ ذكوري سلطوي بامتياز، يروي لنا قصص الأبطال والحكّام الذكور، ويُقصي المرأة من مسرحه. بل كثيراً ما يوصم المرأة الواعية بمصطلحات سيئة مثل: “المشعوذة، الساحرة، الكيميائية، ناقصة العقل والإيمان، العاقّة، المتمردة” وغير ذلك من التعابير التي تحط من شأن المرأة، والتي كانت منطلقات أساسية في محاربة كل امرأة واعية رفضت الخضوع للنظام الذكوري المهيمن.
زد على ذلك ما تعانيه المرأة منذ خمسة آلاف سنة من عبودية عميقة فُرِضت عليها وتأسست على إقصائها وتهميشها من كافة مجالات الحياة. بل وتعدّت الأمر بأنْ نَسَبَ التاريخُ الرسمي الذكوري كل اكتشافات المرأة التاريخية العريقة في فجر البشرية إلى الرجل، واقتصر على نَسْب “الفحوش والدعارة” إلى المرأة. كل هذا يحتّم علينا إعادة النظر في كافة حفظياتنا، من أجل المساهمة الفعالة في نفض الغبار عن تاريخ المرأة، وتسمية تاريخ استعباد المرأة بالمسمّيات الصحيحة، وفي سبيل تدوين تاريخ حرية المرأة.
فلنُلقِ نظرة خاطفة على ما يُعنى به علم المرأة والحياة.
منطلقات علم المرأة والحياة-الجينولوجيا:
كلنا نعلم أن البشرية عاشت أكثر من 98% من تاريخها على شكل مجتمع أمومي طبيعي، حفظناه من كتبنا المدرسية ومن التاريخ الرسمي المكتوب على أنه “المجتمع المشاعي البدائي”. وكلنا تعلّمنا في المدارس والجامعات أن البشرية تطورت أساساً مع ظهور التمايز الطبقي، والدولة، والسلطة؛ وأننا الآن نعيش في أكثر العصور تطوراً من جميع النواحي.
وصار من المألوف تماماً أنه عندما يجري الحديث عن أغلب الميادين الحياتية، كالسياسة والاقتصاد والأمن العام والإدارة والحكم، فغالباً ما تنطبع في ذاكرتنا وفي عقلنا الباطني صورة “الرجل” لانشغاله أساساً بهذه الأمور، التي باتت حكراً عليه تماماً. نقول “تماماً” لأنه حتى لو تواجدت بعض الشخصيات النسائية هنا وهناك في مثل هذه المجالات، فعادةً ما تضطر إلى “محاكاة الرجل” والاسترجال لإثبات حضورها وتمكين هيبتها، لأنها تعلم سلفاً أنه لا يمكن للمرأة مزاولة هذه الأعمال بنكهة أنثوية، أو لأنها جُرِّدَت أصلاً من رؤيتها الأنثوية الأصيلة الحرة.
لكن المثير أن أغلب البحوث والدراسات الحقيقية والعادلة في التاريخ الحديث حول تاريخ البشرية ومسار تطورها، تشير إلى أن المرأة كانت القوة المحركة للبشرية في المجتمع الطبيعي، الذي سُمّي عمداً بـ”المشاعي البدائي”. ونظرة خاطفة إلى ذاك المجتمع، ومقارنة بسيطة بينه وبين مجتمعنا “المتطور” تكفينا لإعادة الحكم على نسبة البدائية والتطور في كِلا المجتمعَين، بشرط أن نحدد معيار البدائية والتطور قبل إطلاق حكمنا الأخير.
فهل تقسيم العمل الطبيعي بين الجنسين على أساس قطف وجمع الثمار من قِبَل المرأة وامتهان الصيد من قِبَل الرجل، والاعتماد بالدرجة الأولى على الكدح في تأمين المأكل والمأمن والتكاثر بأبسط أشكاله يُعدّ “بدائية”؟ وبالمقابل، فهل اختراع القنابل الذرية وتجريبها على البشر وشن الحروب الشنيعة، التي نعيش آخرها حالياً ونجتر مخاضاتها هي “تطور” حقيقي؟
ألا تُعَد كل بدايةٍ ثورةً بكل معنى الكلمة؟ فإذا كان جوابنا هو نعم، فأين نحن إذن من الثورة الزراعية القروية الأولى، التي تمحورت بالأغلب حول المرأة الميالة إلى الاستقرار والمنشغلة بقطف الثمار والمكتشفة لزرع النبات؟ وأين نحن إذن من الثورة الفكرية الأولى التي ابتدأت وتمحورت حول المرأة أيضاً حصيلة استقرارها المستدام مقارنةً بالرجل الصياد الرحّال؟ وأين نحن من كل البدايات التاريخية الأولى التي شهدتها البشرية في فجر تاريخها العريق؟ وكيف لنا أن نوصم كل تلك الثورات والبدايات المصيرية بتوصيف “البدائية”؟
هذه الأسئلة البسيطة التي يمكن الإكثار منها بلا نهاية، تؤدي بنا إلى القناعة بإعادة النظر في الكثير من الحفظيات التي تلقيناها، بل وإلى قلبها رأساً على عقب، للوصول إلى الحقيقة، في زمنٍ بات الرياء والزيف فيه من سماته الأساسية… لنُجمِع أولاً على أن المرأة كانت ميالة إلى الاستقرار نتيجة انشغالها بالنباتات والتربة وتربية الحيوانات، ونتيجة اختلافها البيولوجي المتجسد في إنجاب الأطفال والاعتناء بهم. وهذا بحد ذاته شرط محوري لكل الاكتشافات والاختراعات والثورات الأولى التي شهدتها البشرية. من هنا، ألا يمكن اعتبار الاستقرار (والذي تمحور حول المرأة في فجر التاريخ) ثورةً بحد ذاتها، ونفتقدها في عصرنا “المتطور” كافتقادنا للماء والهواء؟
ثم إن اكتشاف دور البذور في الزراعة، والذي أدى إلى الثورة الزراعية الأولى، ونمّ عن مراكمة المنتوجات الزراعية والمحاصيل وعن بروز “فائض الإنتاج” والمقايضة حسب الحاجة، هو بحد ذاته ثورة “اقتصادية” تمحورت أيضاً في فجر التاريخ حول المرأة. أي أن أول أرضية تاريخية للاقتصاد تعبدت بفضل جهود واكتشافات المرأة. فلماذا نجد أنفسنا كنساء مقصيّات عن هذا الشأن الاستراتيجي الذي بات حكراً على الرجل، وبعيداً كل البعد عن “الكدح”، فصار يُعبّر مضمونه عن الربا، وعن اكتساب المال من المال، وجني الأرباح بأقل الجهود وبأكثر الحيل؟ ألا يدعونا هذا إلى حتمية إعادة النظر في مضمون اصطلاح “الاقتصاد”، والذي يعود في جذوره إلى مصطلح “أكو- نوموس” أي “تدبير شؤون المنزل”؟ وإلى استرداد هذا المضمون الحقيقي والعادل كي نعود إلى اقتصاد تشاركي مجتمعي مرتكز إلى الكدح الجمعي والمساواة؟
كما إن تدبير شؤون الحياة بأفضل طريقة ممكنة ومعقولة، ألا يمثل جوهر مصطلح “السياسة” الذي طالما نعرّفه حالياً بأنه “فن الممكن”؟ ونظراً لأن تدبير شؤون الحياة والمنزل بأفضل السبل قد بدأ في مهد البشرية مع المرأة المستقرة، أفلا يعني هذا أن أرضية السياسة المجتمعية الحقيقية قد تكرست مع المرأة؟ فكيف صار أن أُقصِيَت المرأة من هذا المجال الحياتي؟ وكيف تحول مضمون مصطلح السياسة إلى “فن الكذب”؟
ألم تكن المرأة شريكة الرجل، أو بالأحرى، ألم يكن الرجل شريك المرأة في البتّ في جميع شؤون الحياة في ذاك المجتمع “البدائي” وحتى في المجتمعات اللاحقة لها، على الرغم من اختلال التوازن في هذا الموضوع تدريجياً؟ فكيف بتنا مهمّشات في بلداننا، بعيدات عن أماكن صنع القرار، في عصرٍ “متطور” تعصف به الحروب الدموية الشنيعة، وتسود فيه المصالح الذكورية الاحتكارية والعسكرتارية بامتياز؟ كيف لنا أن نردّ الاعتبار لمصطلح “الشراكة الندية” الذي أضحى غائباً من ذاكرتنا المجتمعية نتيجة إقصاء المرأة، والحط من شأنها إلى درجة تسليعها واعتبارها مُلكاً ذكورياً بامتياز، والحكم عليها بأقصى العقوبات التي وصلت حد الإبادة؟
ألم تكن المرأة بذكائها الفطري الطبيعي تؤمّن مأمن أطفالها و”عائلتها” حينما كان الرجل يبحث عن فريسة يطاردها؟ ألم تمارس المرأة “الدفاع عن الذات” وفق الحقوق الطبيعية المشروعة طيلة آلاف السنين؟ فكيف صرنا مقصيّات عن مجال “الأمن والدفاع” في وقتٍ تكون فيه المرأة الضحية الأولى لكل مشاكل الأمن الناجمة عن الاحتلال والاستعمار والحروب الجنونية؟ وكيف تحوّل مجال “الدفاع” إلى قطاع هجومي عسكرتاري يحصد أرواح البشر كرمى للمصالح الربحية بامتياز؟
وإذا كانت المرأة “إلهة” في المجتمع “البدائي”، وتحولت إلى “مخلوق ناقص العقل”، بل وإلى “مَلِكة السلع” في عصرنا “المتطور”، بتصييرها أداة إعلامية ترويجية وجنسية بامتياز، وبعرضِ أطرافها للبيع بأسعار باهظة وكأنها خروف معروض للذبح؛ أفلا يُرغمنا هذا على إعادة النظر في كل ما يَحوم حولنا من مصطلحات لوضع النقاط على الحروف، ولاسترداد المكانة المرموقة للمرأة، وللقضاء على كل ما يحط من شأنها في جميع مجالات الحياة كشرط أوليّ لاسترداد المعنى الحقيقي لـ”الرجولة” أيضاً؟
وإذا كانت الآداب والفنون العالمية الشهيرة تتمحور حول تصيير المرأة أداة جنسية بامتياز تحت اسم العشق والحب، وترسخ ذهنية استملاك المرأة بهذه الوسيلة، وتركّز على دورها في إشباع شهوات الرجل، وفي الحط من مستوى المجتمع عبر تخديره بالجنس؛ فربما يكون هذا الأمر بوابة لنا للرد على سؤال: لماذا نفتقر اليوم إلى ملاحم العشق الأصيل التي كان يذخر بها التاريخ حتى في العصور الوسطى؟
وفي الحين الذي كانت فيه العلوم كلاً متكاملاً لدى أسلافنا، فخرج من أحشاء المنطقة أمثال ابن الرشد وابن سينا وابن خلدون، فتحولت المنطقة إلى محط جذب لكل متعطش للعلم والفلسفة والطب وكل أنواع العلوم الطبيعية؛ فإننا نجد أنفسنا اليوم يائسين من الأمراض المتفشية كالإيدز والسرطان وغيرها من الأمراض في الوقت الذي يتم فيه توصيف عصرنا بأنه حقق ثورة علمية… هذا عدا عن التقسيم الحاد والقاطع بين العلوم وفقاً للرؤية العلموية الربحية، والذي يحاول معالجة الأمراض الجسدية في جسم الإنسان المتكامل برؤية تقسيمية لا تؤدي إلى أية حلول جذرية…
هذا وناهيك عن استشراء مشاكل التضخم السكاني، والبطالة، واتساع الهوّة بين الفقراء والأثرياء، وتلوث البيئة، وتسييس الدين، وتفشي ظواهر النزوح والتهجير والتطهير العرقي، والإبادة الثقافية واللغوية والمجتمعية، وغيرها الكثير الكثير من القضايا الشائكة التي تنتظر الحل الجذري، وإلا فسوف تصل البشرية والطبيعة في آنٍ معاً إلى حد لا تُطاق فيه الحياة بسبب التصحر وجفاف المياه.
إن القضايا الاجتماعية المتفاقمة بدأت مع بدء التاريخ الرسمي الذكوري السلطوي، وأن المشاكل الاجتماعية في الحقبة التي سبقت ذلك، والتي يُقَدِّرها علماء الآثار والأنثروبولوجيا بنسبةٍ تُشكّل 98% من عمر الكون، كانت تقتصر على الآفات والكوارث الطبيعية فحسب. بمعنى آخر، فمنذ أن عرفت البشريةُ الذهنيةَ الذكورية، انحرفت عن مسارها، وبدأت القضايا الاجتماعية تتفرع وتتفاقم وصولاً إلى يومنا الراهن.
بالتالي، وإذا كنا فعلاً نود وضع حلول جذرية لكل هذه المشاكل والقضايا العالقة، فلا بد لنا من إعادة النظر في كل ما يحوم حولنا، وتسمية الأشياء والمصطلحات بأسمائها الصحيحة، وإعادة معانيها الحقيقية الثمينة إليها، للعمل بها وتطبيقها بشكل صحيح. وهذا ما يُعنى به “علم المرأة والحياة” بصورة أساسية انطلاقاً من إيمانه بأن “الحياة وعيٌ وإدراك”، وأن الوعي الصحيح يأتي من قوة “المعنى” السديدة.
ونجد أن تطبيق ذلك بدأ في روج آفا- شمال سوريا، بأن تشكلت أكاديمية علم المرأة والحياة، للنبش في التاريخ وإعادة تقييمه بهدف تقويمه، كضرورة حتمية من أجل استنباط قراءة صحيحة للحاضر، واستخلاص حلول جذرية للمستقبل، مستقبل المرأة خصوصاً، ومستقبل المنطقة والعالم عموماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من كتاب “المرأة الكردية، من أين وإلى أين؟”، المجمع الثقافي المصري، الطبعة الأولى – مصر 2018م