أدبية ثقافية فصلية تصدر باللغتين العربية والكردية

التقنيات الفنية لرسم الشخصيات الروائية في رواية (العنقاء) للكاتب الفلسطيني عبد الكريم السبعاوي – نبهان رمضان

 

نبهان رمضان

 

(لقد حكمنا الأتراك باسم الدين ثلاثمائة سنة.. لم يفتحوا خلالها مدرسة.. لم يعبدوا شارعاً.. ولم ينهضوا بصناعة أو زراعة أو تجارة.. أو علم.. أو فن أو أدب. أخضعونا لسلطانهم بدعوى أنهم حماتنا من الكفار.. أما وقد عجزوا حتى عن هذه.. فما عاد لسلطانهم في أعناقنا بيعة ولا ذمة.. هذه أرض العرب.. لن يحميها غيرهم .. لقد انتزعنا أرضنا من أنياب بونابرته.. ولن نسلمها لأي طاغية آخر).

 

بهذه العبارة ختم الكاتب عبد الكريم السبعاوي روايته الأولى من رباعية ملحمته أرض كنعان التي شملت مائتي عاماً من تاريخ فلسطين. يعتقد العرب أن المستحيل ثلاث (العنقاء، الغول، الخل الوفي)، وهذه المستحيلات هي عتبات ثلاثية أرض كنعان للكاتب عبد الكريم السبعاوي الذي أضاف رواية (رابع المستحيل) والتي يروي خلالها تاريخ فلسطين ويركز على مسقط رأسه “غزة”، لتكون بطلة الرواية، فلم يتخذ بطلاً من الشخصيات التي تتضمنها الرواية وإنما اختار المكان “غزة” ليكون بطل رواياته. أولى هذه الروايات هي (العنقاء) أصدرها دار السبيل في أستراليا عام 1989 حيث الانتفاضة كانت الدافع الأساسي لكتابة هذه الرواية، وثانيها (الخل الوفي) عام 1997، ثم (الغول) عام 1999، ثم (رابع المستحيل) عام 2005، لذلك أطلق عليها الرباعية.

تدور أحداث رواية (العنقاء) في الفترة من 1775 حتى 1803 حيث هزيمة نابليون بونابرت وفشله في اقتحام عكا.

تعتبر الشخصية مكوناً أساسياً وعنصراً هاماً في الرواية، وهي الوسيلة الوحيدة التي يعتمد عليها الكاتب لنقل أفكاره ومواقفه وإبراز توجهاته.

لقد تنوعت الشخصية واختلفت بحسب المحددات والمعايير التي انطلق منها كل قارئ وناقد، ومن أهم تلك المحددات التي أشار إليها الناقد المغربي حسن بحراوي خاصية الثبات والتغيير التي من خلالها قسم الشخصية إلى سكونية تبقى ثابتة طول السرد لا تتغير، وديناميكية نامية تتحول بطريقة مفاجئة، كما ركز أيضاً على أهمية الدور الذي تقوم به الشخصية في السرد، فصنفها على هذا الأساس إلى رئيسية محورية أو ثانوية.

من جانبه ميز الروائي البريطاني فورستير أركان الرواية بين الشخصية المركبة والشخصية المسطحة، انطلاقاً من ثنائيتي الإقناع والإدهاش، والتي قد تحققه الشخصية للقارئ أو لا تحققه. فالشخصية التي تثير فينا الدهشة هي مركبة، وإن كانت غير ذلك فهي مسطحة.

نستخلص من ذلك أن هناك عدة تصنيفات للشخصيات الروائية.

 

أولاً: ثنائية الشخصيات الرئيسية والثانوية:

 

في هذا التقسيم تتنوع الشخصيات إلى نوعين: رئيسية وفرعية أو ثانوية.

الشخصيات الرئيسية: في الحقيقة ظهر هذا النوع من الشخصيات في التراجيديا اليونانية التي قامت على مفهوم البطل الذي تدور حوله معظم الأحداث، وتأثر هي في الأحداث أو تتأثر بها أكثر من غيرها من شخصيات الرواية، وتستمد معظم الشخصيات وجودها من مقدار صلتها.

ويصف الناقد إبراهيم حماد الشخصية الرئيسية بأنها الممثل الذي كان يلعب الدور القيادي في الدراما الإغريقية ثم يلعب أدواراً أخرى في نفس العمل، أما الآن فهو الشخصية التي تلعب الدور الأساسي في النص المكتوب.

في الحقيقة رواية “العنقاء” لم تكن هناك شخصية رئيسية وحيدة تدور حولها الأحداث، لكن هناك مكان وحيد يهتم الكاتب بعرض مكوناته ووصف أفراحه وأحزانه، ماضيه وحاضره، عاداته وتقاليده. يمكن القول أنها دراسة أنثروبولوجيا كاملة في شكل رواية تقوم على شخصيات عدة وليس شخصية واحدة، كل منها تشرح وتفسر تاريخ المكان وهو مدينة غزة وحارة التفاح تحديداً. كما أن محور المقاومة الشعبية للمحتل الفرنسي يعد محور آخر وهام داخل متن الرواية.

نستعرض هذه الشخصيات والوظيفة الرئيسية التي تقوم بها في بلورة فكرة الرواية العامة:

شخصية يونس: تعد الشخصية الرئيسية داخل رواية “العنقاء”، فهي تحمل سمو الأخلاق والنموذج المثالي لحب الوطن واعتزازه بنسبه العربي الأصيل، فتمثل شخصية يونس الوطنية وحب الوطن (ص9.(

اشترى يونس وادي الزيت وحرر الفلاحين من الضرائب التي كانت تثقل كاهلهم، يونس نجد الملهوف وساعد المحتاج (ص9.(

تزوج فاطمة ابنة شيخ حارة التفاح فكان لها نعم الزوج.

الدور الآخر الذي قامت به شخصية يونس روح المقاومة والتضحية بكل نفيس حتى الروح في سبيل الوطن. قدم روحه فداء للوطن، وقاوم الغازي المحتل الفرنسي نابليون بونابرت حتى استشهد في سبيل وطنه ودينه (ص192.(

استشهاد يونس قبل نهاية متن الرواية فتح جدلاً حول دلالة ذلك الحدث، هل بموته يعلن الكاتب خمود المقاومة الشعبية في روح الشعب أم أن الكاتب أراد أن يقول إن المقاومة عندما تنتقل من يونس إلى الشاب مبارك يعطي استمرارية لهذه الروح. تتغير الأشخاص لكن تظل المقاومة تبث روحها في نفوس الأحرار من جيل إلى جيل.

2ـ شخصية جوهر: جوهر هو التابع الأمين المخلص لسيده. شخصية مستوحاة من التراث الشعبي، العبد الزنجي، أخ غير شقيق لـ يونس (أخ الرضاعة)، اعتنى بزوجة يونس وحفظ أمواله بعد استشهاده.

3ـ شخصية شهوان: مغني الحارة، يقيم حفلات الأعراس، تعد شخصية شهوان نافذة هامة تطل على الفن والتراث الثقافي للوطن، يذكر الكاتب من خلاله الأغاني الشعبية التي كانت تردد أثناء حفلات العرس أو وقت الحصاد أو الأعياد والمناسبات الشعبية.

4ـ شخصية تيمور الضرغام (شيخ المشايخ): رجل شاذ جنسياً، استخدم غلام قوقازي بديلاً عن زوجاته الأربعة غير جواريه، يتصف بالجبن، هرب من مواجهة الغازي الفرنسي.

٥ شخصية القاضي معروف: علماء السلطة نموذج كل العصور ذلك الشيخ الذي يطوع الدين في خدمة السلطة، دائماً ما يكون هذا النموذج محب للمال والطعام والملذات عموماً (ص32). لم يتورع في إعلان الوالي الجزار أنه المهدي المنتظر لصبغ القدسية عليه.

٦ شخصية سالم بن رجب: الشخصية التي تكون على نقيض البطل (يونس)، محب لذاته، يتصف بالطمع والجشع، لا يتورع أن يبيع القيم والمبادئ في سبيل تحقيق أطماعه وجشعه، ورط والد “خضرة” ووشى به إلى الجنود الذين تناوبوا اغتصابها. أراد أن يشي بمبارك قائد المقاومة بعد استشهاد يونس ليفوز بفاطمة ووادي الزيت. عاجله الله بالطاعون قبل أن يستولي على وادي الزيت. هو مصدر لتكدير صفو أهل بيته خاصة في المناسبات السعيدة.

7ـ شخصية شيخ حارة التفاح رمضان: والد “فاطمة” زوجة يونس، تعد الشخصية الوسطية من بين شخصيات الرواية، رفض تزويج فاطمة لسالم. علم ابنه مبارك حب الوطن والدين، وشارك مع أهل الحارة في الذود عن الحارة ضد هجمات المحتل.

8-  شخصية خضرة: شخصية نسائية تحملت وزر الحارة وخذلانهم في الدفاع عن شرفهم وكرامتهم. بعدما وشى سالم بأبيها للعسكر الذين تناوبوا على اغتصابها على مسمع ومرأى من أهل الحارة، ولم يتحرك لأحدهم جفناً نخوةً وغيرةً على الكرامة والشرف. تحولت إلى فتاة لعوب لا تعيرهم اهتماماً أو خوفاً حتى حملت سفاحاً، فما كان من أهل الحارة إلا أن ينتفضوا من أجل شرفهم فقتلوها رجماً. تبين هذه الشخصية ازدواجية معايير الشرف لدى عامة الناس.

9ـ  شخصية تاج الدين الخروبي: الشخصية المقابلة للقاضي معروف. هو شيخ لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يخشى جبروت حاكم ظالم، وقف ضد الوالي الجزار، وقاوم الغازي الفرنسي. رمز المقاومة رغم كبر سنه.

الشخصيات الثانوية: هي الشخصيات التي يتحدد وجودها كضرورة سردية بحكم وظيفتها المحددة في الرواية، وسميت بالثانوية لأن دورها أقل من الشخصيات الرئيسية، تكون مسطحة وثابتة غير نامية. رغم أنها تقوم بأدواراً مصيرية أحياناً في حياة الشخصيات الرئيسية. وللشخصيات الثانوية دور في تصعيد الحدث وإحكام الحبكة السردية، تساعد الشخصية الرئيسية في أداء مهمتها وإبراز الحدث.

وبالعودة لرواية “العنقاء” نجد:

1- درويش باشا: متصرف غزة، الذي لا يمل من جمع المال من أهلها واستنزاف نقودهم.

2- شمعون صاحب الحمام: اليهودي البخيل، صاحب الحمام في حارة التفاح، الذي يحب المال حباً جماً.

3- سارة: اليهودية التي جمعت اليهود من حول العالم ليتفقوا على إقامة وطن لهم في فلسطين. شخصية سارة وشمعون يبرزان عدة عوامل مهمة في بداية تاريخ القضية الفلسطينية، منها عدد اليهود القليل جداً الذين يعيشون في غزة لا يتعدوا أربعة أسر. دورهم في تسهيل دخول الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت البلاد.

4-أحمد باشا الجزار: والي عكا الذي ادعى أنه المهدي المنتظر، الوالي الجبار الذي يستخدم القوة والعنف في دحر منتقديه ومعارضيه.

 

ثنائية الشخصيات النامية والثابتة:

 

أولاً- الشخصية النامية: هي الشخصية التي يتعرف عليها القارئ بالتدريج على عكس الشخصية المسطحة التي تظهر مرة واحدة بصفاتها وأحوالها، وقد أطلق عليها اسم المدورة، لأنها تدور مبينة كل جوانبها، ويشترط فيها المفاجأة والإقناع. تعد من العناصر الأساسية للسرد بفضل أفعالها، يتغير مجرى السرد وتتطور الحبكة ويطلق عليها أيضاً الشخصية المحورية أو المتغيرة أو الديناميكية. لم يكثر عبد الكريم السبعاوي في رواية “العنقاء” من الشخصيات المدورة، حتى أن الشخصيات تأرجحت مواقفها على ما هي عليه، غير أن نداء نفسها كان يتقلب في بعض الأحيان.

من نماذج هذه الشخصية في رواية العنقاء:

شهوان: أحب ابنة إمام المسجد الذي كان يرفض تزويجها له، لأنه مغني، ويذكر سيرتها في أغانيه، كان يخشى العار. حاول شهوان قتل نفسه حتى يوافق الشيخ على زواجه من مريم (ص49).

وبعد أن تزوجها تغيرت مشاعره نحو مريم التي كانت تلح عليه باستمرار ترك مهنة الغناء التي يعشقها، فتحولت مشاعره نحو خضرة وخان زوجته (ص92).

ثم تعلق بفتاة شاهدها على شاطئ البحر، لكن الكاتب أعاده لسيرته الأولى ساعة موته، فهو أيضاً مات دفاعاً عن الفتاة (ص213).

القاضي معروف: رغم الصورة القاتمة التي رسمها الكاتب للقاضي معروف خلال متن الرواية، إلا أنه جعله يتأثر بخطبة تاج الدين الخروبي لتلاميذه في موطن ما (قام مصطفى الكاشف وعانق الشيخ ثم انخرط في نشيج مر، وعلا البكاء بين التلاميذ حتى أن معروف لم يتمالك دموعه) (ص78).

وفي مقطع آخر يبين الكاتب أن القاضي معروف يعرف طريق الحق، لكنه يبتعد عنه ولا يلزمه، كأن على قلبه قفل، والدنيا أخذته بهرجها وذلك في حديثه للجزار(ص88).

رغم المساوئ التي فعلها، لكن ما زالت نفسه تنبهه أحياناً (كأنه يعنيني فها أنا حقاً شاهد زور الذي إذا ذكر بآيات ربه يخر عليها وهو أصم أعمى) (ص110).

وينهي الكاتب شخصية القاضي معروف بما يستحق، حيث يموت ميتة شنيعة كان يستحقها على يد مبارك ورجال المقاومة (ص 209).

ثانياً- الشخصيات الثابتة: وتنقسم إلى:

الشخصيات الثابتة المسطحة: يطلق عليها أيضاً الشخصيات الثابتة أو الجامدة أو النمطية، وهي تدور حول فكرة واحدة لا تتطور في متن الرواية، وتفتقد الترتيب، ولا تثير الدهشة في نفس المتلقي.

عرفها الناقد المصري محمد غنيمي هلال بأنها الشخصية البسيطة في صراعها غير المعقدة، وتمثل صفة أو عاطفة واحدة، وتظل سائدة من بداية القصة حتي نهايتها.

هذا النوع من الشخصية لها دور ثانوي في العمل السردي، وتبقى على حالها من بداية الرواية حتى نهايتها، وبفصل بساطتها وسطحيتها، يستطيع القارئ بكل سهولة الكشف عن مختلف دلالاتها.

الشخصيات الثابتة غير المتطورة: هي الشخصيات التي تسير على خط ثابت من بداية النص إلى آخره، حيث تعتبر شخصيات رواية العنقاء من ذلك النوع، ما عدا شخصية شهوان والقاضي معروف.

 

الأبعاد الدلالية لشخصيات رواية “العنقاء”

 

تعتبر الشخصية الفنية المتصلة بالأدب عموماً والرواية بصفة خاصة بقوتها ووضوح بنائها، حيث كان للنقاد الدور البارز في الاهتمام بمكوناتها التي يحددها الكاتب ببراعة، وتبين أن هذه الشخصية تتكون من ثلاثة أبعاد، تعتبر أساس البناء الفني لها وهي:

البعد الفيزيولوجي: يتمثل في الجوانب الخارجية للشخصية، أي يتمثل في المظهر العام والسلوك الخارجي للشخصية، أي التكوين الجسماني وما تحمله من ملامح وخصائص مميزة كالوزن والطول والنوع والجنس واللون وما يميز من لون العيون أو الشعر وما بها من إعاقات طبيعية أو مكتسبة ومظهرها الخارجي والملابس والمكملات والعادات واللوازم التي تميز الشخصية في تكوينها المادي وحالتها الصحية. كل هذه الصفات المادية المتنوعة تأثر تأثيراً كبيراً في سلوك الشخصية وطريقة تفكيرها وحتى تعاملاتها مع المجتمع في حياتها اليومية.

يمكن القول بأن القارئ أو المتلقي من خلال البعد الفيزيولوجي ينبغي أن يتعرف أكثر على الشخصية الروائية ويستطيع أن يفهمها ويفهم كيفية تأثيرها في بقية الشخصيات الأخرى بالإضافة إلى ملامحها وخصائصها.

في رواية “العنقاء” عندما يصف الكاتب عبد الكريم السبعاوي جوهر (نظر السامري إلى وجه جوهر ذي الشفتين المشقوقتين كشفتي جمل وعينية الحمراوين اللتين تقدحان شرراً… تذكر الجني الشرير في قصة الملك سيف بن ذي يزن) ص3.

أعطى الكاتب العبد جوهر صفات جسمانية مخيفة، تلقي الرهبة والرعب في قلب من يعاديه. في مقطع آخر يصف الكاتب جوهر على لسان أخوه في الرضاعة يونس (لقد منحه الله بسطه في الجسم والعقل، فشب كما يشب مارد…ورغم بشاعة وجهه كانت له روح تفيض بالجمال …حفظ الشعر ورواه عن شعراء القبيلة وتعلم أن يحز على الربابة ويغني بصوته العذب) ص22

هنا يذكر الكاتب دواخل شخصية جوهر التي على النقيض من شكله الخارجي فلا يعلمه سوى من يقرب منه ويحبه كأخ أو صديق.

في مقطع آخر، بعدما اقترب الناس في المدينة من جوهر ظهر معدنه الأصيل (أعاد سواد جوهر إلى الأذهان فروسية عنترة وأبي زيد الهلالي، حرك في وجدان الناس ملاحم الزمن الغابر، أعطوه من الحب والهتاف والتشجيع ما أسكره حتى الثمالة) ص69

نلاحظ كلما توغل المتلقي في متن الرواية تتضح ملامح الشخصيات أكثر فأكثر. يصف الكاتب يونس عندما ارتدى ملابس نظيفة (بعد الحمام خرج يونس يرتدي حلته الجديدة…بدى كأمير من أمراء الزمن الغابر…حتى أن شمعون لم يملك سوى أن يقبل يده) ص3

عندما تغير مظهر يونس خضع شمعون تحت سيطرة العظمة والبهاء التي بدى عليها يونس، فكان مردودها أن قبل يده احتراماً وإجلالاً.

ظهور خضرة سافرة يعد رداً وقحاً على جبن أهل الحارة وخذلانهم في الذود عنها وحفظ شرفها وعدم إنقاذها من بين براثن العسكر (ظل هذا دأبها حتى قررت إنهاء بياتها الشتوي الطويل …فاجأت أهل الحارة ذات يوم بظهورها سافرة أمام المسجد) ص16.

لم يستطع أحد منهم أن يردعها أو ينصحها أو ينهيها عن فعلها الفاضح لإظهار خزيهم منها (ص 16(.

تعد سفور خضرة بمثابة إعلان العصيان على جبن وخسة أهل الحارة، خاصة تخاذلهم عن نجدتها.

شهوان صاحب الصوت الجميل الذي يجعله يعمل مغنياً فكان السبب في رفض الشيخ محمود تزويجه ابنته مريم رغم أن حلاوة الصوت جعلت مريم تهيم به عشقاً، وكذلك آخرون رجالاً ونساءً، لأنه أصبح مصدر فرحهم وسعادتهم سواء في حفلات عرسهم أو في موسم الحصاد (ص 26).

عمله كمغني كان سبب شقائه أيضاً، عندما رفض الشيخ محمود تزويجه مريم ابنته . (ص27).

وصف السارد جمال فاطمة كالآتي: (خرجت فاطمة من الطشت تتألق في عريها… كانت الشمس تشرق على جسدها من خصاص كوة من الجدار.. فبدت كأنها اللؤلؤة الخارجة من صدفتها… احمرت الأم وبلعت ريقها وهي تصلي على النبي، قرأت على رأس ابنتها قل أعوذ برب الفلق) (ص40 ).

استفاض الكاتب في وصف جمال وطهر فاطمة، مرة على لسان الراوي فجاء الوصف شاعرياً مترفعاً عفيفاً، ومرة أخرى على لسان الأم فجاء الوصف حسياً يوضح جمالها الأنثوي. هذه الاستفاضة توضح أهمية شخصية فاطمة التي يطلبها الكثير للزواج، لكنها جوهرة ثمينة لا يستحقها سوى رجل يثمن قيمتها ويقدرها.

2- البعد السوسيولوجي: يتمثل هذا البعد في انتماء الشخصية إلى طبقة اجتماعية، وفي نوع العمل الذي يقوم به في المجتمع، وثقافته ونشاطه، وكل ظروفه التي يمكن أن يكون لها أثر في حياته، وكذلك دينه وجنسيته وهواياته. فهذا البعد يوضح بصورة دقيقة بأن الشخصية التي تنتمي إلى طبقة اجتماعية عالية من الغنى والمستوى الثقافي وغيرها ليست كما هي تلك الشخصية التي تعاني الفقر مثلاً. ويشمل هذا البعد أيضاً مستوى تعليم الشخصية ونوع الحياة الاجتماعية (ابن…أخ…خال…ابنة…جد …جدة….).

كما أن العلاقات الاجتماعية خارج إطار الأسرة في محيط المجتمع من العلاقات المهمة في توضيح الخصائص الاجتماعية للشخصية، كأن تكون للشخصية نشاط سياسي مثلاً أو خيري أو هواية مؤثرة على خصائصها.

وفي الأخير يمكن القول بأن البعد السوسيولوجي له دور كبير جداً في التعرف أو تحديد الشخصية الروائية وذلك من خلال انتمائها إلى طبقة اجتماعية معينة، ومن خلال مستواها العلمي والثقافي، ونوعية الحياة الاجتماعية لديها. كل هذا يسمح بكشف تلك الشخصية وكيفية تعاملها مع بقية الشخصيات الأخرى.

تظهر ثقافة يونس في رواية “العنقاء” عندما رفض حجاب القاضي (خذ يا يونس ..صنعت لك حجاباً يحميك من كل سوء.. تكلفت خمسمائة قرش لأهل الله الذين ساعدوني في عمله. قال يونس وهو يرد الحجاب للقاضي: احتفظ بحجابك يا قاضي… أو فلتجد لك زبوناً آخر…أرملة مسكينة أو فلاحاً جاهلاً أو فقيراً تسلبه قوت يومه…أما أنا فلي الله وهو خير حافظ)، هذا الحوار يعكس البعد الثقافي لشخصية يونس. وفي مقطع آخر (أما القاضي فإن وقعة العشاء المخيفة التي ابتلعها أثقلت عليه…فأخذ يراوح بين النوم واليقظة …ولكن صوته لعلع فجأة: محمد بن عبد الوهاب … أما زال ذلك الكافر حياً…سمعت أنه مات. قال يونس: كيف حكمت بكفره أيها القاضي؟ لقد هدم القبور الأولياء والصحابة ونقض طاعة السلطان وهو ولي الأمر الواجب طاعته بعد الله ورسوله وأباح لأتباعه حمل السيف على من خالفهم في العقيدة مع أن الله تعالى يقول (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).

أجاب يونس بصوت جاهد على أن يكون هادئاً: الكافر هو الذي يروج البدع…ويبيع الأحجبة والتعاويذ التي ما أنزل الله بها من سلطان ،ويشرك مع الله إلهاً آخر، حين يطلب المعجزات والكرامات من أضرحة الأولياء الذي تعفنوا وأكلت جثثهم الأرض …الكافر هو الذي يسكت على ظلم أولياء الأمر للرعية واستباحتهم للحرمات) ص20

يظهر الكاتب البعد الأعمق لثقافة يونس السلفية الوهابية ووعيه بالدين. ذلك الوعي الديني والوطني الذي يدفعه لتحرير الشيخ تاج الدين الخروبي من سجنه بعدما اعتقله الوالي الجزار والذي دفعه أيضاً أن يضحي بحياته في سبيل الله ووطنه أمام الغازي الفرنسي.

الميزة التي تبدو دميمة عند عموم الناس تكون في نفس الوقت طيبة عند شخصيات أخرى. عندما اكتشف جوهر جارية تنتمي لقبيلته في الحبشة اعتبرها تجار الرقيق أنها تقلل من ثمنها، لكن عند جوهر لها ثمن غالي. (

(سحبها جوهر من يدها وغادر المكان، والطاهر يقول في نفسه لكل ساقطة لاقطة)ص81

كون الجارية ذات عزة وكرامة قل ثمنها، لكن عند جوهر تساوي الكثير، لأنها تنتمي لقبيلتها.

3 ـ البعد السيكولوجي: يتصل البعد السيكولوجي (النفسي) بكل ما يتعلق بالجانب النفسي للشخصية من رغبات وانفعالات ومواقف ومزاج الشخصية وطبعها وغيرها، ويتضمن هذا البعد النتائج المتكونة عن تاريخ الشخصية السوي من عناصر إيجابية وقوة وما تعانيه من ضعف أو خلل نتيجة تاريخها غير السوي.

يعتبر البعد النفسي ثمرة البعدين السابقين في الاستعداد والسلوك والرغبات والآمال والفكر وكفاية الشخصية بالنسبة لهدفها، ويتبع ذلك المزاج من انفعال وهدوء ومن انطواء أو انبساط وما وراءها من عقد نفسية محتملة. وكمثال على ذلك في رواية “العنقاء”:

ـ (تعودت خضرة على جفائهم وابتعادهم عنها، جازتهم جفاء بجفاء، تدبرت أمرها بعيداً عنهم)ص16

فتحت وطأة الاستبعاد والنفور من أهل الحارة هجرتهم خضرة، وكانت تخرج من دارها ليلاً حتى لا ترى أحداً منهم، ولا أحد يراها سوى أولاد البلبيسي الذين يساعدونها على المعيشة. (ص31).

ـ خوف الأب على ابنته من سالم المتزوج من ثلاث سيدات، ويتصف بسوء الخلق والجشع والطمع، بينما فاطمة جميلة وصغيرة وعلى درجة كبيرة من الأخلاق الحميدة، فتلك الزيجة تعتبر هما وغما بالنسبة لشيخ الحارة. (ص32).

ـ الحالة النفسية السيئة التي دخلت فيها فاطمة بعدما علمت أن سالم طلب يدها للزواج من أبيها.

ـ فاطمة في مقطع آخر (كانت فاطمة تجلس في ركن غرفة متلفعة بالسواد كأنها شبح أو ظل من الظلال لم تجد دموعاً في مآقيها لبكاء والدها، استنزفت كل دموعها في البكاء على يونس) تلك الحالة النفسية لشخصية فاطمة بعد استشهاد زوجها يونس وأبوها واختفاء أخوها مبارك تحولت إلى شبح أو ظل من الظلال.

يمكن القول أن هذه الأبعاد الثلاثة – الفيزيولوجي والسوسيولوجي والسيكولوجي-  تمتزج مع الوظائف التي تسند لها داخل بنية النص العام، فبإمكان الكاتب أن يحيلها مرجعية تمثل إيديولوجيا معينة أو متكررة تعمل على التنظيم الحدثي وتقوية ذاكرة المتلقي، فاجتماع هذه الأبعاد الثلاث يعتبر أساس البناء الفني للشخصية الروائية وتكاملها.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصدر:

رواية “العنقاء” للكاتب الفلسطيني عبد الكريم السبعاوي، 1989م.

المراجع:

ـ شعرية الخطاب السردي، محمد عزام، اتحاد الكتاب العرب، دار رسلان للنشر والطباعة والتوزيع، دمشق، 2005م.

ـ بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، المركز الثقافي العربي، 1990م

ـ أركان الرواية، إدوارد مورغان فورستير، ترجمة: موسى عاصي – سمر روحي الفيصل، 1994م.

ـ الشخصيات الروائية، إبراهيم حماد.

ـ الرواية، محمد غنيمي هلال.

 

*نُشرت هذه المادة في العدد السابع من مجلة شرمولا / صيف 2020