أطفال سوريا أوانُ اغتيال البراءة ــ عبد المجيد قاسم
إنَّ مرحلة الطفولة، والتي تُوصف بأنها أهمُّ وأبهج مراحل حياة الإنسان، حظيت – عبر التاريخ الحديث – بالعديد من المواثيق الدولية، كان أهمها: (اتفاقية حقوق الطفل) التي بلغت ذروة غايتها؛ عندما تبنَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه الاتفاقية، واعتمدها كأول اتفاقية دولية ملزمة قانوناً في هذا المجال، عام 1989. ووفقاً لهذا الإعلان يتمتّع كلّ أطفال العالم بجميع الحقوق المقرَّرة فيه، وأهمها: حياة آمنة وكريمة، وحصولهم على حقوقهم الاجتماعية والقانونية والفكرية، وحمايتهم من أيِّ استغلال نفسي أو جسدي. وأكدت المواد الـ /54/ المتضمِّنة؛ حقّ الطفل في أن يتمتَّع بطفولة سعيدة، وأن يترعرع في بيئة عائلية مفعمة بالمحبّة والتقدير والتفهُّم. ومن جهة أخرى أن تُعامل الدول الأطراف كلّ طفل يخضع لولايتها، دون أيِّ نوع من أنواع التمييز، بغضِّ النظر عن لونه، أو جنسه، أو لغته، أو دينه، أو أصله القومي، أو الإثني أو الاجتماعي، وأن تتعهّد باحترام حقِّ الطفل في الحفاظ على هويته. ثم كان لتوصية الجمعية العامة للأمم المتحدة بتخصيص يوم دولي لحماية الأطفال، يوافق الأول من حزيران/ يونيو، ويوم عالمي للطفل، تحتفل به معظم دول العالم وتعدُّه عيداً للطفولة، يوافق 20 تشرين الثّاني/ نوفمبر، كان لذلك أثرٌ كبير في لفت الأنظار إلى عالم الطفولة.
على الرغم من كلّ الامتيازات التي حظي بها الأطفال، والأشواط التي تحققَّت في ميادين تربيتهم، إلا أن الطفولة لا تزال تعاني من مشكلات عدّة، ولم تَرقَ إليها النظرة إلى المستويات التي تستحقها.. إذ لا نزال – للأسف – نقرأ ونسمع ونرى حتى الآن أوضاعاً مأساوية يعيشُها الملايين من الأطفال في بقاع شتى من العالم، بسبب الحروب والنزاعات المسلحة، نرى كيف تُنتهك براءتهم وعفويتهم وصفاء نفوسهم، سواءٌ الأطفال الذين عايشوا الحرب فعلاً وكانوا أهدافاً مباشرة لها، أو الذين يخضعون لتأثيراتها بشكل غير مباشر. يحدث كلّ ذلك، بالرغم من أن جميع دول العالم وحكوماتها موقعة على (اتفاقية حقوق الطفل) والقوانين الدولية الخاصة به.
ولعلَّ من أهمّ الآثار المأساوية للحروب والنزاعات المسلَّحة على الأطفال: فقدان الكثير من الأطفال لحياتهم، وإصابة الكثير منهم لإعاقات وحروق وجروح كبيرة، حيث تشير التقارير الصادرة عن المنظمات الإنسانية ذات الصلة، إلى الأعداد المهولة للضحايا الأطفال نتيجة الحروب. وكذلك تعرّضهم لاضطرابات نفسية وسلوكية. ناهيكم عن النقص الكبير الذي قد يحصل في مجالات التغذية والرعاية الصحية والصرف الصحي، ما يؤدي إلى تفاقم معاناة مئات الألاف من الأطفال حول العالم. وتبعات عمليات النزوح للكثير من الأسر عن مناطقها، وما تخلقها من التداعيات السلبية، كبقائهم دون مأوى، وضعف فرص الحصول على مقوّمات الحياة الإنسانية الكريمة، وفقدان توافر ظروف الحياة الطبيعية.
لم يعد الطفل في سوريا، بسبب ظروف الأزمة القاسية التي لا تزال قائمة، يرسم عصفوراً، أو شجرة، أو صحن فواكه إذا طُلب منه أن يرسم، بل أصبح يرسم جندياً أو مدفعاً أو بندقية. كما لم تعد غايتنا كمربين وآباء إلا الحفاظ على حياتهم، مستبذلين كلّ ما خططناه لهم مقابل هذه الغاية. لم يعد مهماً زيارة حديقة أو ممارسة نشاط ثقافي أو فني أو رياضي، وأصبح الشغل الشاغل تأمين الخبر وكأس الحليب، وشمعة يشعرون على ضوئها بقليل من الطمأنينة، باختصار أصبحنا نبحث في مفردات إنسانيتهم.
لقد أصدرت العديد من المنظمات الدولية التي تعنى بشؤون الطفل، عشرات التقارير عن الضريبة الباهظة التي تدفعها الطفولة في سورية، والواقع الذي يعيشه أطفالها منذ سنة 2011 وحتى اليوم، وهو واقع بائس، لا يمكن لكائنات بريئة كالأطفال أن تتحمَّل تبعاته. ولعل صورة الطفل (إيلان) غريقاً على شاطىء البحر، وقد أدار للعالم ظهره سخطاً واحتجاجاً، في أيلول/ سبتمبر 2015 وبعدها صورة الطفل (عمران) الذي ظهر يتلمَّس الدماء والأتربة على وجهه وسط الصمت والذهول، في آب/ أغسطس 2016، واليوم صورة (محمد)، الذي كان يصرح من الألم، نتيجة الحروق التي سبَّبها الفوسفور المحرم دولياً، تعدُّ من أجلّ الأمثلة على ذلك الواقع المرير. كما حذرت إحدى تلك المنظمات من ضياع جيل كامل من الأطفال السوريين، بسبب حرمانهم من الحصول على التعليم ومهارات النجاح، ومن جانب آخر بسبب الصدمات التي قد يعانون منها بفعل آثار الحرب وتأثيراتها، بل أنها ذهبت بتحذيراتها إلى أن واقع الحال في سوريا سيشكِّل خطراً حقيقياً على الأمن العالمي برمته. قالت “فيرجينيا غامبا”، الممثلة الخاصة للأمين العام للأطفال والصراعات المسلحة: “يدفع أطفال سوريا الثمن الأكبر نتيجة الحرب الدائرة في بلدهم. سلب منهم براءتهم وأحلامهم وحقهم الأصيل في الحياة والعيش الكريم. معاناة أطفال سوريا وصمة عار على المجتمع الدولي”.
وكدليل على هذا الواقع، ما خلَّفه الغزو العسكري للدولة التركية، والمسلحون الدائرون في فلكها على شمال وشرق سوريا، ومدينة (سري كانيه/ رأس العين) الآمنة خصوصاً، وما نجم عنه من آثار خطيرة وانتهاكات صارخة على الأطفال في هذه المناطق، فمن يرصد حجم الإجرام المتعمَّد فيها تتضح له الصورة كاملة عن حجم المعاناة التي يعيشُها الأطفال أثناء الحروب النزاعات المسلحة.
لقد وثَّقت العديد من المنظمات العالمية؛ أعداد الضحايا الأطفال خلال هذا الغزو، سواء ممن فقدوا حياتهم، أو أصيبوا بجروح وإصابات مستديمة، ناهيكم عن آلاف الأطفال الذين شرِّدوا وأصبحوا نازحين في مراكز خُصِّصت لإيوائهم، جراء استهدافهم من قبل قصف طيران ومدافع القوات التركية في هذا الهجوم، الذي بدأ في التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وظلَّ مستمراً لما بعد الاتفاق الأمريكي التركي على وقف إطلاق النار، مما ترك أدلة دامغة على ارتكاب هذه القوات (جرائم حرب)، كما ذهبت إليه، وأكدته منظمة العفو الدولية.
من ضحايا هذا العدوان، الطفلة “سارة”، البالغة من العمر 8 سنوات، والتي بُترت ساقها بسبب قذيفة أطلقتها القوات الغازية على حيِّ “قدور بك” شرق القامشلي في اليوم الثاني من عمليتها العسكرية، وقد ظهرت وهي تتساءل بكلِّ حزن: أين ذهبت قدمي؟ لماذا فقدتها؟ كما فقدت هذه الطفلة شقيقها محمد، 13 سنة، أثناء قيامهما باللعب أمام بيتهما في الحي المذكور.
أكَّدت العديد من المصادر الدولية على استخدام القوات التركية لذخائر الفوسفور الأبيض الحارقة والمحرَّمة دولياً، إثر غارة جوية على مدينة (سري كانيه/ رأس العين)، مما أدى لإصابة واستشهاد بعض المدنيين بينهم أطفال، وقد تمَّ تشخيص الحروق على أجسام الضحايا من قِبل جهات دولية متخصِّصة، بأنها ناتجة عن استخدام هذه المادة. إذ أعلن مفتشو الأسلحة الكيماوية بالأمم المتحدة، أنهم جمعوا معلومات حول هذه الحوادث، عقب اتهامات لتركيا باستخدام (الفوسفور الأبيض) ضدَّ الأطفال، بحسب ما ذكرته صحيفة (الغارديان/ The Guardian) اليومية البريطانية. كما قالت منظَّمة حظر الأسلحة الكيمياوية الدولية (OPCW) في بيان لها، من مقرِّها في لاهاي عاصمة هولندا، أنها على علم بالموقف، وتقوم بجمع المعلومات فيما يتعلّق باحتماليَّة استخدام تركيا للأسلحة الكيمياوية.
كما أكدَّ ذلك؛ العديد من خبراء الأسلحة الأوروبيين، حيث قال الصحافي الدنماركي المستقل، “ثيا بيدرسن”، الذي قام – على أرض الواقع – بتوثيق ضحايا الفوسفور الأبيض: إن ما شاهدته يمكن وصفه بـ (المروّع، والغير طبيعي). كما قال “بريتون غوردون”: القائد السابق للفوج الكيمياوي والبيولوجي والإشعاعي والنووي في المملكة المتحدة: “الجاني الأكثر احتمالاً هو الفوسفور الأبيض.. إنَّه سلاح مروِّع”. كما أظهر أحد الخبراء البريطانيين في الأسلحة الكيمياوية صوراً واضحة للطفل “محمد حميد محمد”، 13 عاماً، تظهر بأنه تعرَّض لحروق كيمياوية ناتجة عن استخدام الفوسفور الأبيض.
كما أشارت العديد من وسائل الإعلام العالمية إلى هذا الموضوع، وسلَّطت عليه الضوء، فقد ذكرت صحيفة (التايمز/ The Times) اليومية البريطانية في إحدى تقاريرها، وضمن بحثها في الحالات المتضرِّرة، أنَّ الحروق البليغة التي ظهرت على جسد الطفل الضحية محمَّد، توغَّلت في جسده بعمق، لدرجة أنه لم يكفّ عن الصراخ من شدة الألم، وهو ينشد والديه لإيقاف النار في جسده، بعد أن نُقل إلى إحدى المشافي في بلدة (تل تمر) التابعة لمحافظة الحسكة، وأشارت الصحيفة إلى أن حالته نجمت عن شيء أسوأ بكثير من الانفجار وحده.. وأن حالة الطفل تمَّت إضافتها إلى مجموعة متزايدة من الأدلة، التي تشير – بالأدلة القاطعة – إلى استخدام تركيا أسلحة محرمة دولياً، (الفوسفور الأبيض) ضدَّ المدنيين.
وكشفت مجلة: (نيوزويك/ Newsweek) الأسبوعية الأمريكية، عن صور مروّعة لضحايا؛ تعرضوا لأسلحة محرّمة، أحرقت أجسادهم بشكل لم يعد ممكناً التعرُّف عليهم. ونقلت معاناة الأطفال في المناطق المستهدفة، وأشارت في تقريرها إلى استخدام تركيا لمواد محظورة، مثل الأسلحة الكيمياوية والقذائف الحارقة، التي تهدف إلى الإضاءة الليلية، والفعّالة بشكل مأساوي في حرق الجسد البشري أيضاً.. حدث ويحدث ذلك على الرغم من أن البروتوكول الثالث لاتفاقية حظر استخدام الأسلحة التقليدية يمنع استخدامها في المناطق المكتظّة بالمدنيين.
بحسب المرصد السُّوري لحقوق الإنسان، فقد ارتكبت القوات التركية مجزرة أخرى بحقِّ ثمانية أطفال خلال قصف مدفعي استهدف سوقاً شعبياً في مدينة تل رفعت، في ريف حلب الشمالي، حيث قال مدير المرصد “رامي عبد الرحمن” إنَّ (القصف التركي وقع قرب مدرسة أثناء خروج الأطفال منها)، مشيراً إلى أن الضحايا من المهجرين الذين فرّوا من منطقة عفرين، مع احتلال القوات التركية لها، بمساندة فصائل سوريّة من المرتزقة، في العام 2018. وقد وصفت هذه الجرائم جميعها، التي تورطت بها تركيا منذ بداية اجتياحها لمناطق شمال وشرق سوريا بأنها جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، من قِبل المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، خاصة المنظمات العاملة في مجالات حقوق الطفل.