“المعتقلات السياسية” في السينما المصرية.. فيلمي “البريء” و “التحويلة” نموذجاً – عبدالرحمن الأحمد

هناك ثلاثة محرمات تحكم السينما العربية عموماً، ومصر ليست مستثناة من هذا التحريم. وهذه المحرمات هي (السياسة والجنس والدين)، وبقيت القضايا السياسية طوال أكثر من ثلاثين عاماً مغيبة عن السينما المصرية، حيث أن موضوعا مأساوياً جوهرياً لم تتصد له السينما المصرية بجدية إلا متأخرة في عام ١٩٨٦م، من خلال فيلم “البريء”. إذ أن قضية الاعتقال السياسي تم التطرق إليها في فيلمين من أميز أفلام السينما المصرية السياسية. الأول هو فيلم “البريء”، الذي قام بدور البطولة فيه الفنان المبدع الراحل “أحمد زكي” وأخرجه “عاطف الطيب”، وكاتبه “وحيد حامد”، وألف موسيقاه التصويرية الملحن “عمار الشريعي”.
تدور أحداث الفيلم عن مواطن اسمه “أحمد سبع الليل”، بسيط إلى درجة السذاجة، لا يعرف القراءة أو الكتابة، يساق إلى خدمة العلم، وبشكل مقصود يتم فرز هؤلاء الجنود البسطاء إلى الخدمة في المعتقلات والسجون المخصصة للسياسيين والمعارضين لنظام الحكم، وهذه المعتقلات غالباً تقع في أماكن نائية او في الصحراء. “سجن العقرب” مثال على هذه السجون القاسية، ويطلب منهم التعامل بكل قسوة ووحشية مع السجناء السياسيين، وعندما يسأل المجند “أحمد سبع الليل” قائده المباشر، من هؤلاء يا سيادة الصول؟ يقول له: أنهم أعداء الوطن. إلى أن يتفاجئ الجندي البسيط “أحمد سبع الليل” أن ابن قريته “ممدوح عبدالعليم” الشاب الطيب ابن العمدة، وقد جيء به مع المساجين السياسيين وبكل سذاجة وطيبة يصيح “توقفوا عن الضرب، هذا ابن العمدة، إن في الموضوع لبس، إنه ليس من أعداء الوطن، أنا أعرفه بشكل جيد”. ويصدم “أحمد سبع الليل” بأنه قتل أحد الذين ظن بأنهم من أعداء الوطن عندما حاول الهرب، مما جعل هذا الجندي البسيط ينقم على قادته، ويقوم في المشهد الاخير من الفيلم بقتل قادته في حالة هستيرية. ولأن فيلم “البريء” جاء بنهاية فاجعة بقتل قائد معسكر الاعتقال والحراس وبعض المجندين، فقد توجه ثلاثة وزراء الى مدينة الفنون بالأهرام لمشاهدته وممارسة الرقابة عليه، الوزراء الثلاثة هم (المشير أبو غزالة وزير الدفاع ، اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية، الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة). وبعد مداولات فيما بينهم شارك فيها الأديب “سعد الدين وهبة” رئيس لجنة المهرجانات، انتهى الأمر إلى حذف بعض اللقطات من الفيلم، وبشكل خاص في الختام، مع إجبار صانعي الفيلم على إنزال بيان في بدء العرض يقرون فيه بأن وقائعه لا تمثل الحاضر بأي حال من الأحوال، بعدها ولمدة ثمانية أعوام لم يتعرض أحد من العاملين بقطاع السينما لقضية المعتقلات أو السجون السياسية لا من قريب أو بعيد.
فيما أنتجت السينما المصرية فيلماً آخر عن معسكرات الاعتقال تحت عنوان “التحويلة” في عام 1996م، تقاسم البطولة فيه نجاح الموجي وفاروق الفيشاوي، عامل التحويلة مسيحي ومقدم الشرطة فاروق الفيشاوي مسلم. وسيناريو الفيلم كتبها “يوسف بهنسي”، واقتبست قصة الفيلم من رواية للكاتب وجيه أبو ذكري (عامل التحويلة).
تبدأ الأحداث من محطة كوبري الليمون، حيث نرى عامل تحويلة القطار يعيل أسرة مكونة من زوجة وابن صغير وابنة وأم مريضة، ورغم أنه لم يحصل على تعليم عال، إلا أنه كان في وسعه التعبير عن مكنون عواطفه بشعر زجلي جميل، يتغنى فيه بحب مصر أم الدنيا. وتستمر الحكاية هادئة رتيبة بلا فواجع تعكر صفوها إلى أن تشاء الأقدار أن يقف بالمحطة قطار يحمل سجناء سياسيين مرحلين الى أحد المعتقلات، فقبل تحرك القطار بقليل اكتشف ضابط الشرطة المكلف بمهمة تسليم السجناء الى المعتقل أن أحدهم في غفلة من الحراس قد هرب دون أن يترك له أثر، وفي محاولة منه لتجنب المساءلة عن إهماله الجسيم هذا أصطحب الضابط بالخداع عامل التحويلة الى القطار حيث أودعه بالإكراه في إحدى العربات باسم “السجين الهارب”.
في المعتقل حاول العامل إثبات شخصيته الحقيقية، فلم يرد عليه أحد رغم استنكاره وصياحه، بل قاموا بتعذيبه واهانته، وتمر الأيام والسنين، وهو على هذا الحال، معتقلاً دون ذنب جناه حتى كاد ييأس.
في الجانب الآخر يعرض الفيلم حياة الضابط في بيته وعمله، فهو زوج مثالي، وذو خلق عظيم، ولكت الأقدار تتدخل في حياته لتحول حياته الى جحيم. فقد سمع هذا الضابط الشريف شكوى عامل التحويلة، وبدأ يشك ويسأل ويبحث ويتقصى، وما أن تأكد من براءته، حتى بدأ يناضل من أجل الإفراج عنه، وحاول مع رؤسائه ولم ينجح، بل إن رؤسائه اعتبروه متعاطفاً مع سجين سياسي معارض، فسعوا الى التخلص منه وزجه في السجن مع نفس المعتقل السجين “عبد السيد” حيث لقي الاثنان مصرعهما برصاص أحد الضباط القتلة.
وفي مشهد الختام تسيل دماؤهما “المقدم وعامل التحويلة” ممتزجة غي الأرض الطيبة، حتى تصل الى مجرى النيل. هذا الختام إنما يرمز عند مخرج الفيلم “أمالي بهنسي” الى الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين.