هسيس البندقية ــ جوان زكي سلو
منذ زمنٍ بعيدٍ، لم أشهد والدي بهذا القدر من الحنق، بوجنتين تفوران بالدماء، وعينين تقدحان شرراً، وأنفاس ما برحتْ تعتصر الأنين المحتشد في رئته السَعِلة، يشتم ويلعن سيارته التي أبت أن يصدر محركها أي صوت أو همهمة، أسمعه من خلف غطاء السيارة وهو يطلب مني أنْ أُديرَ المفتاح، فلا يسمع سوى طقطقة المفتاح في القفل. لقد ذهبت محاولاته أدراج الريح، واستبد به الغضب، أغلق الغطاء بقوة مستنفراً كل طاقته، وجلس خلف المقود يتأفف، شاركته طبعاً بشتم السيارة، وركل عجلاتها، انتقاماً لوالدي منها، وخذلانها له. لقد باتت كصخرة صماء باردة، لم تتزحزح قيد أنملة، وكانت أمي وأختي وجدتي قد صعدْنَ صندوق السيارة الخلفي، وتحتضنّ ما جمعْنه من متاعنا وحقائبنا المبللة بالدموع والصرخات، تستغيث أمي وتنوح كمداً، على أيام عاشتها في كنف منزلنا الكبير، على كل تلك الحجارة التي تراصفت فوق بعضها مكونة جدران المنزل تحكي قصص حياتنا، وما تزال تختزن الحنين. كنا مستعدين للنزوح من سري كانيه (رأس العين)، كما فعل جيراننا، ننظر إليهم بحرقةٍ، حين تمرّ بقربنا قوافل الهجرة الثانية، فأسترق النظر إلى أعينهم الغارقة في مرارة التشرد، في ليلة الهجوم التركي علينا، ليلة التاسع من شهر تشرين الأول، من عام 2019.
بعد محاولات عدة فاشلة، كان فيها المفتاح يدور بلا جدوى في قفل التشغيل، وقدمه تضغط بلا هوادة على دواسة الوقود، حتى طلب من شبّان حي “زورآفا” الشمالي الملاصق للحدود التركية، الحي الذي أسكنه، ولي فيها ذكريات لا تحصى، كي يدفعوا السيارة بما أوتوا من القوة إلى الأمام، فلبّى أبناء الحي طلبه، وهبّوا بسواعدهم لنجدتنا، حينها أصدر محرك السيارة هديراً قوياً، مبشراً إياه بأولى علامات الحياة، لتبدو أمام عينيه كعجوز كانت قد قاربَت على الموت، وتعود مجدداً إلى الدنيا، بعنفوان الشباب، بعد أن تناولت دفقة أملٍ من دواء.
قفزتُ من خلف السيارة، قبل أن تسير بنا لأكثر من مترين، عائداً إلى بيتي الذي كان ما يزال يرتشف الحنين من ذكرياتنا، كي أجلب هاتف أختي التي قد نسته سهواً في غرفتها الصغيرة، فوق طاولتها التي لا تخلو من كتبها ودفاترها الجامعية، وصور معلقة على جدران مشققة، وحاسوب كانت قد أغلقته بكلمة سرّ يعجز أعظم لص إلكتروني ولوجه، سمعتُ أبي من خلفي يستعجلني، ينفث سمّاً رمادياً من سيجارته المعتقة، ألتفت إليه موافقاً، فرأيت أمي تهوي بكفها على ظهر أختي تؤنبها على ذلك. وما إن فتحت رتاج قفل الباب الحديدي، حتى هطلتْ علينا قذائف الموت القادمة من خلف الحدود التركية من جديد، بأزيزٍ وصدى يصمّ الآذان، ارتميت أرضاً بقوة التفجير، فاهتزّت الأرض من تحتي كزلزال، هوى إثرها جدار منزل جارنا، وساد جوٌّ من الهرج في الحي، فقد أعلن الحرب بفوضى ضجيجه عن أولى ضحاياه، بقي بصري معلقاً بباب المنزل الذي كان موارباً، وينتظر عودتنا من جديد.
نزل أبي من سيارته مفجعاً، يبحث من بين العجاج عما قد يخفف من خوفه و هيجانه، وجدني بجانب أحد أبناء الحي، أصرخ في وجه رفيقي الشهيد والحسرة تملأ قلبي، أناديه كي يفِقْ من جديد، إلا أن رفيقي الشاب الذي كانت بندقيته معلقة بكتفه، قد فارق الحياة وقتها، وعينيه المفتوحتين تنضحان وجعاً ما بعده وجع، عفّرت أمهُ الجاثية بقربه رأسَها بالتراب، وتعالت أصوات تطلب من الناس الابتعاد عن مكان التفجير، خوفا من سقوط قذيفة أخرى فتصيب أعداداً أكثر من المدنيين، هرعتْ سيارة الإسعاف بدوي صافرتها، لنجدة الجرحى والمصابين، وحملت جثمانه وانطلقت دونما أثر، تبعتها الأعين والأفئدة الحائرة، بعويل شجيّ، تناشد من بعيد السماءَ، علّها تنجد الجميع في هذه الليلة العصيبة حتى الصباح.
كنتُ وريبر جليسا مقعد واحد في المدرسة، عدنا معاً في الظهيرة من مظاهرة جالت أحياء مدينة سري كانيه (رأس العين)، منددةً بالتدخل العسكري التركي في المدينة، افترقنا بابتسامة يشوبها القلق، وبكلمات معلقة على الشفاه، لم تجد سبيلاً لها في التعبير عما يجول في خواطرنا من تساؤلات، دخلت المنزل، بينما حمل ريبر بندقيته، وانضمّ إلى من كان يقف هناك، على حاجز بجانب الحدود، في نهاية الشارع، وعندما حصل التفجير في الحي، تفاجأتُ بصديق طفولتي ينزف دماً قانياً من صدره المضطرب، وقد تشظّتْ جراحه حتى ما عاد بالإمكان أن تُخاط، عندها حملتُ بندقيته، واختفيتُ مع الضباب الأسود، لألتحق بمن كان على الحواجز، وأتابع مهمة ريبر التي بدأت من جديد، فبندقية صديقي ستحيا على كتفي، انتقاماً له، لوّحتُ للريح ولهم ببندقيته، عازماً على أن أبقى، وهكذا اختلط الدخان الأسود لسيارة والدي المبتعدة، من دوني، واختفت غمغماتها وسط سراب الآمال المختنقة بدخان ما كان مشتعلاً من إطارات السيارات المهترئة، فكل شيء بات يغرق في سماء حديدية بلون الرماد، فيا لسذاجة هؤلاء الزوار العابرين، يظنون بأن مدينتي ستموت لحظة عبورهم إليها، لكني أعرف أنّ روح سري كانيه العتيقة، المعذبة والغامضة، لا بد لها أن تعيش مهما حصل.
ليلتها لم يجد النوم سبيلاً لعيني، أو لأحد من رفاقي على الحدود، بينما القذائف المنهالة كانت قد استباحت سماء مدينتنا طولاً وعرضاً، جاعلة الجميع في انتظار المجهول، وما أن تسلقت الشمس أسطح المباني بلونها الذهبي، المائل للحمرة، وصبغت الطرقات والوجوه والحياة بلون الفقد والخوف، حتى استأنفت القوات التركية قذفها للصواريخ، أرضاً وجوّاً، فأصابت تجمّعاً من المقاتلين الكرد، وكنت من بينهم، شعرتُ بأن القذيفة قد تركت شيئاً منها في جسدي، تذكاراً لوقوفي في وجهها، وتحديي لها، وحين اخترقت القذيفةُ الثانية الأرضَ، فجّرتْ السيارة التي كنت مختبأً في ظلها، وآخر شيء لمحته قبل أن أُنقل لمشفى “روج” جنوب المدينة، كان خط الدخان المرتفع من مأذنة الجامع المتهاوي على أسطح المنازل القريبة، وسُحبٌ من الغبار الحارق يكتسح كل شيء، كالموج.
وجد الأطباء والمسعفون ضالتهم في جسدي، عندما بدأوا باستخراج الكنوز منها، قطعة قطعة، وشظية شظية، كعملات معدنية فضية، من عنقي إلى كتفي إلى ساعد يدي اليمنى، مروراً بساقي الأيمن، وكلما أزالوا شيئاً، نبعَ من تحتها الدم، لقد احترق وجهي، بفعل النيران المستعرة من تلك السيارة، التي لولاها لنالَ التفجير من جسدي كله، أحسستُ بأني أذوي صوبَ الهاوية، وحيداً حزيناً، أذوب كشمعة مشتعلة على حافة الأنين، في ليلة بلا قمر، وجدتني أتساقط في أحضاني قطعة تلو قطعة، أحملني جثة هامدة، واحتضر إلى مثواي الأخير، حينها انتشلني صوت ما من قاع الهوّة، شيء شعرت معه بالمرارة، كان صوت ذلك الطفل الذي علمتُ فيما بعد أنه من ضحايا القنابل الفوسفورية التي ألقيت على المدنيين وأحرقتهم، كان صراخه وبكاؤه المستمر لا ينتهي، فبكيتُ حتى بللتُ وجنتيّ والضماد الذي يلفّني، امتلأت غرفتي بالجرحى أمثالي، مبتوري الأمل، وباتت لياليّ الست حبلى بالألم حتى تمخضت كوابيس حمراء دموية، لقد كنا نحن المحاصرين في قبو المشفى ننتظر وصول قافلة طبية من قامشلو لنجدتنا، لكن القصف التركي طالها أيضاً، فدمرتها على أبواب سري كانيه، ومن وصل منها كان نصف جسد، وغاصت المدينة أكثر في دموع الزمن السوداء كالفحم.
عويل أرواح من كان في قبو المشفى، لم يخرج إلى السطح، ولم تستطع تخطّي أدراج المشفى، لأنها اختنقت مع ضجيج المعركة، والسحب الداكنة لأدخنة الدمار كانت قد عقدت العزم على أن تبقى متمسكة بالسماء فلا تفارقها، كنت أرى وجه ريبر في عيون كل الجرحى، ليشرق مع شروق الشمس ويغيب معه، أسمع صوته يخترق سكون الليل النادر، فيهيم مع النسمات، يلاحق النوافذ، فيطرقها بفعل أغصان الحديقة الخلفية للمشفى، يُعلمني بأنه يحميني، وأن الحياة لا بد لها أن تنتصر، هناك ما عاد للوقت معنى، لأنه استشهد أيضاً على أبواب النسيان.
هكذا قضيت لياليّ العشر أنتظر مع المنتظرين، حصول انفراج في الأزمة، وفي صباح اليوم التالي، حملني الممرضون على كرسي متحرك، متجهين صوب بوابة المشفى، كانت عربات الهلال الأحمر الكردي بانتظار إجلاء الجرحى الثلاثين، كنت أحدهم، أنا القتيل الذي ما زال ينفث الحياة من بقايا الجسد, وقد تعلقت عيناي بأطلال المدينة التي كانت ما تزال تحارب الموت ببندقية الأمل، حينها ودعت مدينتي كما ودعت جسد ريبر وكل من سقط في مجرى الدماء.
سرير أبيض آخر، لا يختلف عن أسرّة مشفى “روج” في سري كانيه، بوسادته الكئيبة، وبطنين أجهزته الالكترونية، وبدبيب خطا الممرضين المتعبين، وإصرار الصحفيين الذين أصبحوا كمصاصي الدماء، يحاولون عبثاً مصّ ذكرياتي عبرَ أنيني، كنت مستلقياً على إحداها، في غرفة من غرف مشفى الحسكة، سمعتُ صدى اسمي يأتي من بعيد، يتخطى جدران المشفى، والغرف الجريحة، لم أستطع رفعَ صوتي، فقد غلبتني الدموع، ومنعتني من مناداة أمي وأبي، رفعتُ يدي اليسرى عالياً، كأنني ألوح لهما، بأنني الغريق الذي يتعلق بقشة، لقد كانوا قشتي التي أخرجتني من مستنقع الألم.
تلك البندقية التي كانت في حجري، حين قذفني التفجير بناره بعيداً، كنت أسمع هسيسها كل مساء، غير مستاءةً أبداً، تهمس لي بفرح، أنها وجدتْ أحداً آخر يحملها، يضغط بدلاً عني على زنادها، فتطلق ما في جوفها من نيران، علّها تُعيد وهجَ روح مدينتي إلى قلبي الوجل، حينها سارَ بي كرسيّ المتحرك بلا هوادة، صوب أسفل الشارع، يتدحرج كعربة بلا فرامل، وأنا أصيح، أعيدوني أعيدوني، فهناك من ينتظرني، بألف رصاص.