آخر كلماتي – روضة المحمد

كان من بين جنود الحدود.. تم الهجوم عليهم على حين غرة .
نشب قتال ضارٍ قتل فيه جميع رفاقه؛ لم يكن ليكفّ عن القتال لولا نفاد ذخيرته .
حينها أدرك أنها النهاية، أخرج قلماً ودفتراً صغيراً من جيبه لا يفارقه أبداً.. وخطّ بيد ٍترتجف وقلب يعتصره الحزن.
ـ حبيبتي سلمى :
ربما تكون هذه آخر لحظات حياتي، وآخر ما أخطه لكِ، ربما لم يعد في العمر متسع، قد مات الرفاق يا سلمى، قد مات الأصدقاء، هنيئاً لهم .
أما أنا يا سلمى فقد خانتني ذخيرتي، كما خان البعض أوطانهم .
هل أقف منتظراً موتي؟
وأيّ انتظار؟!
انتظار على حافة هاوية .
سيأتي من يلقي بي في ذلك المنحدر وأنا خاوي اليدين إلا من بارودة خانت بي .
أأنتظر موتي كما ينتظر الجبناء أقدارهم؟!
خانعين مستسلمين.
ما أصعبَ الانتظار!!
آهٍ يا سلمى لقد كلفتنا هذه الحربُ الكثير الكثير، وسرقت منا الكثير.
كنت أظن أننا في عامنا هذا سنتزوج وتنجبين طفلنا الأول، لكن أحلامنا الغضة هرمت ويبست .
أصبحنا هذه الأيام نتصنع الابتسامة، لأنها باتت مُكلفةً، إذا كيف لك أن تغيّر ملامح العبوس ـ تلك الملامح ـ التي أصبحت قرينةً لك كرفيق السوء، لا خلاص لك منها .
هذه الحرب يا سلمى مرضٌ استشرى، وصعب علينا تداركه، فأين الهرب من رحى الحروب؟
آهٍ يا سلمى …
يتراءى لي وجه أمي، تراه كيف سيكون؟
شاحباً، حزيناً، مصفراً كحبة ليمون..
أما زالت تنتظر عودتي؟
وترقب الطريق، تحت ظلال الزيزفون.
آهٍ كم أحن لتلك الرائحة الممزوجة بضحكاتنا
عديني يا سلمى ألا تبكي.. وأن تكوني وفيةً بالوعود والعهود.
أصبحت منذ هذه اللحظة شهيداً، كيف لك أن تبكي، قفي شامخةً، أنت حبيبة الشهيد، وأميّ أم الشهيد، وأبي أبو الشهيد، وفي بلادي كل طفلٍ شهيد، هنيئاً لي أنا الشهيد .
عديني يا سلمى عندما أستشهد، ويرددوا “زفوا الشهيد” أن تقفي شامخةً كأشجار صنوبر تأبى الخنوع.
آه ٍ يا سلمى..
كنت أستطيع الهرب، كما فعل الجبناء، كنت أستطيع الهرب كما فعل الخونة، وآتيكِ موشّحاً بوصمة عار وأدّعي البطولة.
كنت أستطيع الهرب؛ لكن كيف لي يا سلمى أن أنظرَ في عينيك .
كنت سأخجل كثيراً من نفسي ومنك
هل ستحمدين الله أني عدت سالما؟
لا
كنت ستقولين: ليته عاد شهيداً
وأنتِ التي كنت تقولين لي: من خان وطنه خان حبيبه، لا، لن أخون، ولن أموت كما يموت الجبناء، سأموت يا سلمى كما يموت الأبطال واقفاً فاتحاً ذراعي مهلِّلاً..
ماهي إلا لحظاتٌ …
اغتيل القلم ..
اختنقَتْ بقية الحروف…
اختلط الحبر بالدم …
وجسدٌ يتّكِئ على صخرة الوطن
تعالت الأصوات: زفوا الشهيد… زفوا الشهيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتبة لها العديد من الكتابات النثرية والقصصية، تقيم في مدينة منبج، وتعمل في التوجيه التربوي، حائزة على إجازة في اللغة العربية.