سجلات السيدة العنكبوت – حمزة الشافعي

في أحلك أركان بيت طني مهجور، وسط أنقاض قرية غادرها الإنسان منذ عقود طويلة، اختارت السيدة العنكبوت إقامة مكتبها الوظيفي بعناية داخل بيتها المحفوف بالغموض. مكتب السيدة العنكبوت الوظيفي عبارة عن هيكل خنفساء ضخمة، مشدود إلى السقف بأمعاء بعوضة اصطادتها ذات صيف جميل، وسيقان جراد هجم على القرية بعيد مغادرتها من طرف آخر قاطن بها دون عودة، وبعض حبال من شعر طويل يجهل مصدره وإن تشابه مع شعر قطة أليفة لأحد سكان القرية الغابرين.
بدأت تفاصيل هيكل الخنفساء تختفي بعدما صار ملطخا بالتراب المتساقط من جدران المنزل الطيني، وبدأ شكل ومظهر الهيكل يصدران الخوف والذعر للمكان لأنهما مقززان ومتسخان، ليرسما لوحة فنية فريدة يصعب إيجاد نظير لها في الجمال من شدة قبحها واتساخ شكلها. الهيكل رغم كل مواصفات القبح التي يتصف بها، تصر السيدة العنكبوت على جعله مكتبا وظيفيا خاصا بها، وقد اختارت له موقعا مميزاً واستراتيجياً في قلب بيتها المظلم المترامي الأركان والشباك. دعم الهيكل مؤخراً بجزء متين من عمود فقري رقيق يعود لسمكة رمتها طيور قادمة من إحدى مدن الساحل البعيدة، رغم كون بعض الروائح النتنة تفوح منه كلما اشتدت حرارة المكان..
لا أحد يعرف إلى حد الآن كيف تمكنت السيدة العنكبوت من تثبيت ذلك الهيكل الذي يكبرها حجماً ويفوقها ثقلاً ووزناً. ربما رأت السيدة نور الحياة داخل الهيكل نفسه أو بالجوار منه، فظلت وفية لذكرى متعة الولادة في المكان ومحيطه. لكن بمجرد اشتداد عودها ومرارة أحماضها وفعالية سمومها، قررت تحويل متعة المكان إلى فصول جديدة ومتسارعة تؤرخ لتاريخ جديد للمكان ككل: مكان الألم وألم المكان!
كبرت السيدة العنكبوت وصارت قادرة على انهاء حياة أعداد هائلة من الحشرات وتلطيخ الفضاء بالدماء ونشر الصراخ والذعر من الانقضاء والفناء لكثرة الأصوات التي تطلب النجدة من عنف غريزة القتل لدى السيدة… حكاية ممتدة من متعة الأمكنة إلى ألم الأمكنة تؤرخ أحداثها ومشاهدها وتفاصيلها وفصولها السيدة العنكبوت بين صفحات سجلاتها المحفوظة في هيكل الخنفساء وهوامش بيتها المنتشر في أحلك أركان البيت الطيني المهجور وسط القرية التي سكنتها الأشباح. مكان بفصول جديدة، عمران جديد ورهيب المنظر، بيت عنكبوتي بهوامش مرتبكة ومرعبة، هيكل تلاشت ملامحه الأصلية، جهاز مجهول التاريخ والمآل، لكنه معروف الوظيفة والدور: فضاء الاعتقال والفتك والإزاحة من الحياة…
في سقف مكتب السيدة العنكبوت، تظهر بعض الثقوب هنا وهناك رغم محاولة تغطيتها بقطع جلد نفيس ليرقات مزركشة مستوردة من منازل عناكب مقيمة في مدن بعيدة تكثر بها أصناف كثيرة وجميلة من الفراشات واليرقات والحشرات. عند مدخل الهيكل، تتحرك هياكل ذباب أخضر ناذر وصغير تم اختيار مواضعها بعناية فائقة بعد رحلة بحث وترصد وصيد مضنية. ويخيل للناظر أن تلك الهياكل الصغيرة أجراس تؤدي وظيفة تذكير السيدة العنكبوت بأوقات الصيد والأكل والاستراحة والتدريب اليومي. وقد يعتقد البعض الآخر أن وظيفتها أمنية- إنذارية واستخباراتية بامتياز، لأنها تصدر صوتا وضجيجا عند كل دخول أو خروج لجسم أو كائن غريب ليثير انتباه العنكبوت لشحذ أسلحتها ومخالبها وأحماضها لاعتقال وتكبيل المتسللين، قبل انطلاق طقوس الفتك والإذابة والامتصاص ورمي الهياكل والجماجم أرضاً، وفوق سطوح بيوت الحشرات الأخرى المستقرة واللاجئة.
قطع جلدية وهياكل صغيرة جوفاء هنا وهناك… فبالإضافة إلى الطابع الجمالي والتزييني الذي تضفيه على مكتب السيدة العنكبوت وإلى أدوارها الإنذارية الأمنية التي تلعبها، فهي أيضاً، تمنع تسلل البرد والرياح إلى أعماق ودهاليز المكتب الوظيفي، خاصة في فصل الشتاء، كي لا تصاب السيدة بزكام، وما يرافقه من عطس متكرر. ولأن عطس السيدة المتكرر قد يتحرك بفعله جسمها ويهتز، فيتحرك بذلك المكتب والبيت بأكملهما، طاردا فرائس الليل والنهار جراء اهتزاز شباك الصيد…والنتيجة طبعاً، إذا ما طارت الفرائس بعيداً قبل هيمنة أحبال السيدة العنكبوت على أجسادها المختلفة أو تفطنت إلى وجود خطر محدق قبل الاقتراب من الشباك، هي تأجيل فتح سجلات السيدة العنكبوت لتدوين أسماء وأصناف جديدة من الضحايا!
باب مكتب السيدة العنكبوت باب صغير لا يكاد يخول ولوج السيدة نفسها إذا أسرفت في الأكل أو افترست ما يستوفي حجم أكثر من ذبابتين، وقد نقش هذا الباب على الجهة اليسرى لبطن الخنفساء ليخصص ما تبقى من الفضاء الداخلي لهيكل الخنفساء، خاصة بعد تزويده بعدة رفوف من عظام سيقان النمل الكبير وبعض بقايا أجنحة الجراد، لحفظ السجلات من التطاير بسبب الريح، ومن السرقة بواسطة بعض الحشرات المتسللة مثل النمل الصغير الذي يساعده حجمه على اختراق شبابيك البيت وشقوق المكتب الوظيفي للعنكبوت.
ملفات كثيرة وسجلات قديمة وحديثة كلها تحمل طابعاً موحداً للدماء وتوقيعات الافتراس التي قد تتباين نوعاً ما حسب مزاج ونفسية السيدة العنكبوت. ملفات وسجلات غير مرتبة وضعت عليها بعض جماجم حشرات ثقيلة للحد من تحركها أو تطايرها إذا تسربت ريح قوة أو تحرك بيت السيدة إبان كل وقوع لفريسة ضخمة في شراكها… أو كلما لاقت مقاومة شرسة من فريسة غير عادية، وهي تصارع السيدة المميتة – القاتلة – الفتاكة من أجل النجاة، من أجل التحرر، من أجل البقاء والاستمتاع بمزيد من الحياة بعد ملامسة واحتكاك حقيقي مع الموت! كم مرة لم تكمل السيدة العنكبوت مراسيم قتل وامتصاص فريسة وقعت بين مخالبها لتنكب على جر أخرى وقعت في شراكها إلى غياهب ومتاهات المكتب لذبحها، والاحتفاظ بأجزائها غير الصالحة للأكل لتكون شواهداً وآثاراً مادية مرئية، مسموعة، ملموسة لعشق الفتك والامتصاص، مع الحرص على تدوين اسم وفصيلة ولون وشكل وحجم ودرجة مقاومة الفريسة – الضحية ضمن ملفات وسجلات السيدة العنكبوت…
وتظل جمجمة الخنفساء الصلبة والتي تم افراغها من كل بقايا المخ والشحم والعظام الداخلية المكان الحساس في مكتب السيدة العنكبوت، لأنها تضم سجلات بأسماء كل الحشرات التي فرت من قبضتها بعد صيدها، وأسماء الحشرات المبحوث عنها لأنها استوفت السن القانونية للافتراس أو الشروط الموضوع(ي)ة للوقوع في المصيدة (من حيث الحجم، الشكل، الرغبة في الموت رغم عدم استفاء السن القانونية للتقيد في لوائح الافتراس، تحدي السيدة سواء بثبوت ذلك أو عن افتراء أو عن حدسها وظنها). كما تضم رفاف بالغ الأهمية أقيم على الفك السفلي لجمجمة الخنفساء، وفيه وضعت أنواع المحاليل والسموم والأحماض المعدة للقضاء على كل أنواع الفرائس، مع دليل مرفق لدرجة الفتك والفعالية وآجال الصلاحية.
ويبقى هناك ملف ثانوي قلما تطلع عليه السيدة العنكبوت في يومها وربما يمتد إغفاله لشهور، وهو ملف سجلت فيه بعض أنواع الحشرات ذات الجلد الفخم والشكل الجميل والألوان الجذابة التي تقوم السيدة بالإرسال في طلبها أو شراءها مقابل بعض الجماجم والهياكل غير المستعملة لزخرفة مكتبها بشكل دوري، وكلما تبين لها ضرورة إعادة تهيئة فضاءها الخاص والسري، خاصة في فترات ازدهار الصيد والايقاع بالفرائس… ملف لم ينل سوى حيز صغير من فضاء المكتب المغطى بالذعر والدماء والجثث، لأنه ورغم ميول السيدة العنكبوت في لحظات معدودة ومواسم محددة لبعض الجمال والزينة والزخرفة، يضم بين وثائقه بنود وشروط اختيار معدات التزيين والتجميل والزخرفة، ومواقعها وأصنافها وكيفية جلبها والاحتفاء بها. فكيف للسيدة العنكبوت أن تعشق كل ذلك وهي التي تمارس كل أصناف اللاجمال كل يوم: ترصد وصيد وتكبيل وقتل والتهام ثم تعليق للبقايا والجثث المخيفة في كل الجنبات والأركان؟ في أي لحظة نفسية تتبادر إلى ذهن السيدة بعض شذور الجمال لترسل في طلبها أو تعتكف لصيدها؟ وهل تنتفي الرغبة في الفتك خلال تلك اللحظة النفسية اللاهثة وراء الجمال، أم أنها تكبر وتسيطر على السيدة العنكبوت لتقضي بذلك على طلائع الرغبة والميول للجمال لديها، لتستمر في طقوس الفتك اليومية؟
في مكتب السيدة العنكبوت، لا يسمح للضيوف بالدخول أو إلقاء نظرة او طلب زيارة ولو كانت قصيرة أو في غاية الأهمية، إلا من تسلل من الحشرات الصغيرة دون علم السيدة، وربما لقيت حتفا بطريقة مأساوية إذا تصادف تسللها ووجود السيدة العنكبوت على أهبة الانقضاض. في الواقع، لا أحد من الحشرات التي سمعت أو شاهدت قوة فتك وعنف السيدة تجرأت يوما على ولوج ذلك المكتب أو حتى المنزل وإن علمت بغياب مالكته أو دخولها في قسطها اليومي من النوم أو السبات الشتوي الموسمي.
حشرات صغيرة فقط في عمر مبكر هي من تجرأت على اختراق مكتب السيدة العنكبوت ليس لكونها تعشق أن تلقى حتفاً مأساويا محققاً وإنما لعدم نضجها وغياب خبرتها في الحياة ومخاطرها الكثيرة. بعضها، والهياكل المعلقة في مكتب العنكبوت خير دليل، دخلت المكتب دون علم أسرتها وإخوتها الكبار من الناجين من شراك السيدة العنكبوت وهي تطير فرحا نحو المجهول، نحو الموت، نحو أنياب وأحماض وسموم متأهبة للفتك بكل من يدخل المكتب أو البيت أو يجول بالقرب منهما. حشرات صغيرة في عمر اليرقات أو أدنى من ذلك بكثير، دخلت فضاء وسم بالانقضاء وهي لا تدري، وظلت تلعب وتمرح بينما خيوط السيدة العنكبوت تنسج على أعناقها وعلى أجنحتها، لتصير بعد أيام هياكل من دون روح، معلقة على جنبات المكتب والمنزل، ليصير اسمها مسطراً في السجلات المتراكمة لضحايا السيدة العنكبوت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر مغربي، مواليد مدينة تودغة (تنغير الحالية) سنة 1983. حاصل على ماجستير في الدراسات المقارن باللغة الإنكليزية. عَمِل مُدرساً للغة الإنكليزية لدى وزارة التربية الوطنية المغربية لغاية 2015، ويعمل الآن كمستشار في التوجيه التربوي. له ديوان شعري منشور باللغة الأمازيغية بعنوان “الصراع الأبدي”، وله إسهامات شعرية ونثرية منشورة في دوريات ورقية وإلكترونية عربية.