أدبية ثقافية فصلية تصدر باللغتين العربية والكردية

حوار ــ زهير بوعزاوي

زهير بوعزاوي

 

صمت رهيب يمر بين طيات النافذة المفتوحة، يغازل ستائرها البيضاء وهي ترفرف خجلاً، كما تداعب أيضاً نسمات هواء عابرة منها نور شمعة منكسرة قد ذاب نصفها، وتحرك فتيلها العسجدي المشتعل يمنة ويسرة، تكاد تنطفئ عندما يشتد عود الرياح وتستقر حالتها لما تنخفض قوة الصرير، كأنها راقصة هندية تؤدي تراتيل التقرب في معبد هانومان.

نغمات هادئة منبعثة من جراموفون منزوٍ في ركن الغرفة، التي تخالج الروح، وتقذف بالشعور صوب عالم ميتافيزيقي أفلاطوني مثالي الصفة، تجعله في حالة سكون وخشوع تام، جميل ذاك الإحساس الذي تعيشه ماهية الإنسان رفقة الموسيقى الراقية والأصيلة والمُحَافِظةَ على صفاء ونقاء الذات، على إثرها أخذت ورقة ناصعة البياض كفستان العروس ليلة عقد القران، وطفقت أحيك حروفاً تساقطت أفكارها علي كوابل من الرصاص في ساحة الوغى يخترق صدر جندي فاض صدره بالدماء كما فاض حبر القلم فوق سطور الورق، يجادلني القلم بأي مقدمة سأبدأ، وكيف أروض البداية المستعصية التي تأبي الانصياع والخضوع لأوامري، تنفلت الفكرة وتنزلق كالسمكة حين يحاول رجل من سكان الأسكيمو صيدها بيده في مياه نهر من أنهار ألاسكا المتجمدة، صاع الشغف لدي زادته الرغبة صاعين من الإلحاح، أنظر حولي ولا أجد إلهاماً ولا حافزاً يدفعني للأمام، بين الشهيق والزفير وقفت حائراً، خلّلت شعري بأصابعي وفركت اللحية، ثم أطلت النظر عبر النافذة أشاهد لوحة إعلانية تحمل اسم المتجر الماثل قبالتي، تنطفئ مرة وتشتغل مرتين محدثةَ أزيزاً يدخل عبر فتحة أذني ويزعج طبلتها الهشة، نفضت رأسي وحركته للأعلى وهويت به للأسفل، على حين غرة وبعد صراع طويل؛ محاولاً تطويع الأحداث وتقويم اعوجاجها لم أشعر حتى انغمست معها بسرعة وأنا أكتب قصتي المشاغبة، بطلها شاب طويل القامة، نحيف، يافع العمر، أسمر الوجه، وسيم القسمات، كان يفر بين الدروب والأزقة حافياً وعارياً إلا من سروال رث ممزق على شكل تبان، مضرجاً بدماء سائلةِ من سائر عروق جسده، وزنجير مكسور يلف فرداً من سواعده، وسلسلة ذات كرة حديدية مربوطة إلى قدمه يجرها رغم ثقلها، تعرقله، تبطئ حركته وتضعف جسده الغض، احتمى بسرعة خلف سارية إسمنتية ماسكاً سلكاً نحاسياً نزعه من خيط كهربائي مفصول عن عمود الإنارة، وشرع يضعه في خرم قفل السلسة ويحركه داخله بحركة سريعة حتى فُتح ورمى بها داخل حاوية القمامة وفك عنه أيضاً الأصفاد، نهض بسرعة يمشط كل زاوية بعيون شاخصة، خافت المشية وبكل حذر يتقدم للأمام يحاول عبور شارع فارغ عن آخره إلا من المتسولين والمتشردين والسكارى، وهو يراقب عن كثب كل تحركات الآخرين، يتلصص ويتربص بفرص ضئيلة للاختباء حتى لا يلفت انتباه أحد، أتساءل في قرارة نفسي:

من هذا الشخص؟ كيف حدث له كل هذا؟ هل هو سارق أم مجرم فر من قبضة العدالة؟ ترى ما الذنب الذي ارتكبه حتى يعاني هكذا؟ ربما يخفي سراً غامضاً!

فجأة سمعت صوتاً قاسي النبرة يصرخ في وجهي، ذهلت للوهلة الأولى، خفت وتجمدت مكاني فاغر الفاه ومرتعد الفرائص، وهو يحدثني حانقاً:

ما بالي أراك مرعوباً؟ لست كما تخيلتني، لا لص أنا ولا قاتل، أنا طالبُ حقٍ في دولة الذل هذه، أريد الحرية بدل الخنوع والركوع، خلقنا أحراراً مقابلها يريد بشر مثلنا استعبادنا، بالله عليك أهذا مصير من يناضل في سبيل الكرامة؟

أحاول تهدئة روعه واندفاعه في الكلام، ناصحاً إياه بصوت مرتفع:

لا عليك يا رفيق، لن يصيبك إلا… يقاطعني وهو يضع سبابته فوق شفتيه إشارة منه لي بالتزام الصمت، هنيهة السكون، ثم داهمتها صفارة سيارة الشرطة وهي تجوب الشوارع وتحوم حول الأمكنة المشبوهة، جلس القرفصاء وتقوقع داخل نفسه ككرة لحم مفروم قائلاً:

-هل ذهب أولئك الأوغاد؟ عبيد النظام يلعقون أحذية الرئيس، هم من الشعب وإليه يرجعون، يعرفون الحقيقة لكنهم يغطون شمسها بالغربال، رغم ذلك يعادوننا وينفذون أوامر الطغاة على حسابنا، ليت بيدي حيلة، كنت سأبيد النظام وغلمانه.

أجبته برقة وأدب ممزوجين باللباقة:

-لم يعد لهم أثر، يمكنك الوقوف الآن، لكن لا تعاتب الفقير المغلوب على أمره، إذا انحاز للشر دون الخير، فالجوع لا يرحم فقيراً، لذلك يشتغلون مع من يدفع كثيراً، كذلك هم الشرطة- مجرد دمى كراكيز يحرك قادتهم خيوطهم وينفذون الأوامر فقط، لكن ما سبب هروبك من السجن؟

يزعق في وجهي بقوة يفتح فمه، وتنبعث منه جمل من السباب والشتم، أعتقد أن سكين المعاناة ينخر عظامه اللينة:

-من أنت لتأمرني؟ الرئيس وحاشيته لا فرق بينهم وبين الوحوش، بقوتهم يفترسون الضعيف، ولست سجيناً، بل مناضلاً وتم اختطافي من مظاهرة ضد أجهزة الدولة، أتدافع عنهم أنت أيضاً؟

ـ اهدأ.. اهدأ، لا تصرخ هكذا قد يسمعون صراخك ويعودون أدراجهم ويلقون عليك القبض، أستفسرُ عن حالتكَ ربما أساعدك بشيء يجدي مع محنتك نفعاً، تسألني من أنا؟ أنا لا شيء هنا، ما زلت أبحث عن ماهية وجودي فوق الأرض، وما أعرفه حقاً أنني أكتب الآن والبطل الذي صنعته يحدثني كأنني ديكتاتور. رسم على ملامحه ابتسامة صفراء، قصد التهكم ولم تطلق شفاهه هذه المرة سهام الكلام السامة، دلف إلى بيت مهجور يفتش عن ملابس تستر هيكله الهزيل، عثر على مبتغاه داخل صندوق خشبي قديم، خرج وهو يفكر في طريقة للهروب من هنا للأبد و… صرخ مرة أخرى:

توقف… توقف؛ أراك تتفوه بأشياء غريبة، من قال لك أنني أريد المغادرة، أعيد صياغة ما تكتب، من خول لك تزوير رغبتي؟

رددت عليه بوقاحة كما يفعل هو الآخر:

أنا الكاتب هنا وأنا من صنعك وجعلاً منك بطلاً، بادلني الاحترام كما أفعل وإلا..

وإلا ماذا.. هاه…؟؟ أكمل كلامك، كل من يملك من السلطة قليلاً يعتقد نفسه إلهاً، أتعلم شيئاً، إننا نحن الأبطال من نصع الأمجاد والحضارات ويخلدنا التاريخ ويتذكرنا دائماً، لا تكلفون أنفسكم سوى الاختباء وجرة قلم، حين نضحي نحن، تظهرون وتتغنون بما فعلناه، ويكتب الكتاب الجبناء مثلك إنجازاتنا بأحرف من ذهب، نكون المادة الخام لروايتكم ومقالاتكم، إذاً نحن من صنعكم ونصنع أيضاً قصصكم .. فاذهب للجحيم يا كُتيتب..ودعني أقرر مصيري.. اذهب وإلا…..