أدبية ثقافية فصلية تصدر باللغتين العربية والكردية

افتتاحية العدد (8): الترجمة.. حِفاظٌ وتطويرٌ للحضارة البشرية

 

لا يخفى على أحد الدور الكبير التي تلعبها “الترجمة” في إثراء ثقافات الأمم وتقارب الشعوب وتطوير العلم وفي النهضة الحضارية للبشرية جمعاء.

الترجمة علم وفن لها تقنياتها وأساليبها وطرقها، والمترجم ينبغي أن يمتلك قدر من الثقافة الواسعة، وقدرة على فهم اللغات “المترجمة منها وإليها” وأصولها ومصطلحاتها، وكذلك أن يكون مطلعاً على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي حسب العصر الذي يعود إليه النتاج الأصلي. وكلما كانت الأعمال التي تترجم منها ذات قيمة علمية وأدبية كانت لها تأثير أكبر في ثقافة ومعارف الطرف أو الجهة التي يترجم إليها.

ويختلف أساليب الترجمة حسب الأشكال الأدبية والعلمية المختلفة، فالنتاجات العلمية كعلوم الرياضيات والطب والفيزياء والكيمياء والجغرافية على سبيل المثال تتطلب الدقة والموضوعية في الترجمة دون أي تدخل للمشاعر أو العواطف فيها وإلماماً بالمفاهيم والمصطلحات العلمية، وهكذا الحال بالنسبة لجميع الدراسات والمقالات العلمية. أما فيما يتعلق ببعض الأجناس الأدبية كالرواية والقصة والشعر فيتطلب إلماماً بتقنيات وفنون الأشكال والأجناس الأدبية، إضافة إلى قدرة فائقة في إبراز الجمالية في النص المترجم باستخدام الكلمات أو التراكيب الملائمة المقابلة لما هو موجود في النص الأصلي كي يحافظ النص الأدبي المترجم على مستواه العالي ورقيه دون أي رتوش لروحه أو تحريف لمعناه العام.

وعن طريق “الترجمة” بالذات ارتفع شأن العلم والعلماء في العصور الوسطى بمنطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في عهد حكم العباسيين “المنصور وهارون الرشيد والمأمون.. وغيرهم” الذين شجعوا ترجمة علوم ومعارف وفلسفة اليونانيين خاصة، وبذلك حققوا نهضة في سائر العلوم وطوروها، بل وابتكروا علوماً جديدة. وكان للكتاب والمترجمين السريان دور بارز في حركة الترجمة آنذاك “من اللاتينية واليونانية إلى العربية”. وكذلك كانت للترجمة من الآداب الفارسية إلى العربية تأثير في الواقع الأدبي آنذاك. وبالمقابل أخذ الأوروبيون في القرون التي تأخروا فيها بترجمة العلوم والفلسفة والآداب الشرق الأوسطية، ليحققوا بدورهم نهضة علمية وأدبية، كانت لها تأثير – ولايزال حتى الآن- على سائر المعمورة. وهكذا فإن الإنسانية ذاتها تحافظ على الحضارة والإرث العالمي وتطور الفكر والعلوم عبر وسيلة “الترجمة”.

وقد ساهمت الترجمة في نهضة شعوب الشرق الأوسط “العرب، الكرد، السريان، الأرمن وغيرهم” خلال القرن التاسع عشر، بعد قرون من الجهل والتأخر الحضاري إثر خضوعهم للاحتلال العثماني (التركي). وكان العامل الأبرز لذلك احتكاك نخب شعوب المنطقة بالثقافة الغربية سواء عن طريق البعثات التبشيرية الأوروبية للمنطقة، أو من خلال إرسال بعض الحكام لبعثات علمية إلى أوروبا. وكانت نتيجة ذلك الاحتكاك الحضاري قيام نخب شعوب المنطقة بترجمة أبرز النتاجات الفكرية والأدبية الأوروبية ونقلها إلى لغاتهم، مما أحدث نقلة نوعية في إحياء وتطوير آداب شعوب الشرق الأوسط.

ويجدر القول هنا أن ترجمة الأفكار العلمية والثقافية إن لم ترافقها تأثير إيجابي وتطوير في الجانب العملي فأنه لن ينتج عنها التقدم العلمي والحضاري الهادف، حيث ستكون المعرفة حينها شكلياً وتجعل من الأمم والشعوب رهينة لثقافات الأمم السائدة، وتكون الترجمة لأجل “الترجمة” فقط وليس بغرض الرقي والتقدم.

وانتقالاً إلى شمال وشرق سوريا راهناً، فإنه يمكن ملاحظة تأخراً وبطئاً في حركة الترجمة من وإلى اللغات الرسمية “الكردية والعربية والسريانية” سواء فيما بين بعضها البعض أو بينها وبين اللغات الشرق الأوسطية “الفارسية، التركية، الأرمنية …الخ” أو بينها وبين اللغات العالمية ذات التأثير “الانكليزية، الفرنسية، الإسبانية، الألمانية، الروسية،…الخ”.  فنادراً جداً ما يتوفر ترجمات لكبار الأدباء والمفكرين والعلماء العالميين ويعود سبب ذلك التأخر إلى قلة مراكز الترجمة والمترجمين الأكفاء من الناحية الأدبية والعلمية، إضافة إلى عدم الاهتمام والتشجيع اللازم لحركة الترجمة، وبالتالي يؤثر ذلك على التقدم العلمي وتطوير الآداب في شمال وشرق سوريا.

إن تطوير حركة الترجمة الأدبية والعلمية يستدعي استنفاراً لدى الجهات المعنية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا للارتقاء بهذه الحركة من خلال زيادة مراكز الترجمة وتطوير الموجودة منها مادياً ومعنوياً، وبناء مراكز متطورة لتعلم اللغات وكذلك إرسال بعثات علمية أو كوادر متخصصة إلى جامعات عالمية لتلبية احتياجات الترجمة من كافة التخصصات والعلوم من اللغات العالمية إلى اللغات الرسمية في شمال وشرق سوريا، إضافة إلى اهتمام قطاعات أخرى بحركة الترجمة كوسائل الإعلام المختلفة والجامعات والأكاديميات وكذلك في دعم المشاريع الفردية في الترجمة.

ولأهمية الترجمة ودورها الكبير في التقدم العلمي والثقافي وازدهار الأمم، فقد ارتأت هيئة تحرير مجلة “شرمولا” اعتمادها كملف للعدد الثامن، كما يتضمن العدد مواضيع ودراسات ونتاجات في مختلف الأشكال الأدبية الحديثة، راجين من القراء الاستفادة القصوى.