افتتاحية العدد (14): الإيزيدية والإيزيديون.. ديانة توحيدية ومكون أصيل
تشكل منطقة الشرق الأوسط وتحديداً في الهلال الخصيب (ما بين نهري دجلة والفرات) فسيفساء من الملل والقوميات والديانات والمذاهب والمعتقدات والتي كانت أساس تكون الحضارات الأولى للبشرية. ومن بينها “الديانة الإيزيدية” التي تعد أحد أعرق الديانات التوحيدية في العالم وما تزال حية حتى الآن رغم تعرضها لحملات تشويهية وإبادية ممنهجة.
يعتبر الإيزيديين جزءً عضوياً وأصيلاً من الملة الكردية، وفي حقب تاريخية سابقة تعرض العديد من العشائر والعائلات الكردية – ومنهم من كان يعتنق الإيزيدية- إلى التذويب والانصهار في ملل أخرى أو التحويل إلى أديان أخرى. كما أن اتهام الإيزيديين رغم أنهم توحيديين ويعبدون الله الخالق (خودا) خالق الكون والإنسان والذي خلق نفسه بنفسه (إيزيد اسم من أسماء الله، وجاء تسمية الإيزيدية منها) بالكفر والوثنية من لدن الأقوام والديانات المجاورة اثر مقاومتهم ورفضهم الدخول إلى تلك الأديان جعلتهم عرضة للهجمات والحملات الإبادية وأعمال التهجير القسرية، وهكذا يقل أعداد نفوسهم باستمرار ويرجح بعض المصادر الكردية ان يكون أعدادهم قرابة المليون نسمة، وهم يتركزون حالياً في مناطق عديدة من ميزوبوتاميا (الهلال الخصيب) وخاصة ذات الغالبية الكردية “كردستان”.
جرت محاولات حثيثة ومبرمجة من جانب الأنظمة الحاكمة في المنطقة لتغريب الإيزيديين عن مجتمعهم وأصلهم التاريخي من خلال الادعاء بالأصول التركية للإيزيديين من جانب أوساط الدولة التركية، أو بالأصول العربية من جانب الدولة العراقية حتى أن الأخيرة استحدثت مؤسسات وهيئات خاصة بتأليف الكتب المزورة والمشوهة لتاريخ وحقيقة الإيزيديين وديانتهم، فظهرت عشرات المؤلفات التي تدعي الأصول العربية للإيزيديين واطلقوا عليهم تسمية (يزيديين- يزيدية) وزعموا أن نسبهم يعود إلى الأموي (يزيد بن معاوية)، وأنهم يعبدون النار والشيطان، فمهدوا وسهلوا الطريق لاتهامهم بالكفر والوثنية. وهكذا فقد كانت حالة الاضطهاد على الإيزيديين في ظل حكم الأنظمة الإقليمية مركباً، فمن جهة يُرفض عقيدته وديانته وخصوصيته الثقافية ومن جهة أخرى يُرفض قوميته الكردية، فكانت الدول المقتسمة للكرد متفقة فيما بينتها على اتباع سياسة فصل وانسلاخ الإيزيديين عن قوميتهم الكردية وكذلك على التفريق وإحداث الفتن بين الكرد المسلمين والكرد الإيزيديين لضرب بعضهم البعض، وبالتالي كانت الغاية من وراء ذلك سلخ الملة الكردية عن أصلها وثقافتها وتاريخها الأصيل.
ورغم كل تلك الحملات والهجمات العنيفة فقد استطاع الإيزيديون من الحفاظ على ذاتهم ومجتمعهم وديانتهم من الاندثار الكلي من خلال التمسك بتراثهم وتقاليدهم المجتمعية وبالطبيعة، وهذا سر بقائهم حتى يومنا هذا، بل أن أي شعب في العالم إن لم يتمسك أو يرتكز على المجتمعية والطبيعة سيتعرض لا محالة للانقراض والاندثار كما حصل للعديد من شعوب وملل المنطقة.
وقد كانت آخر الحملات الإبادية التي تعرض لها الإيزيديين في عام 2014 بشنكال (شمال غرب الموصل) من قبل تنظيم داعش الإرهابي و2018 في عفرين (أقصى شمال غرب سوريا) من قبل الدولة التركية ومرتزقتها.
في شنكال كان عناصر داعش الذين يهاجمون القرى والبلدات الإيزيدية يقومون بقتل الرجال والشباب، وخطف الصبيان لغسل أدمغتهم وإدخالهم في تنظيمهم وأعمالهم الإجرامية، بينما النساء والصبية كانوا يقومون باغتصابهن وبيعهن في الأسواق والتعامل معهن كالجواري.. والذين نجوا من هذا الإجرام الوحشي تمكنوا من الوصول إلى جبال شنكال وقبيل وصول الدواعش إليهم أيضاً أسرعت حركة التحرر الكردستانية إلى حماية أبناء جلدتهم وتمكنت من فتح ممر آمن من جبال شنكال إلى شمال وشرق سوريا، كما فر آلاف الإيزيديين إلى إقليم كردستان- العراق. وفي سياق حماية أنفسهم أنشأ الإيزيديون وحدات مقاومة شنكال وقد شاركت المرأة الإيزيدية أيضاً في تلك الوحدات لحماية أرضها وشعبها وانتقاماً للأعمال الداعشية التي استهدفتها بشكل خاص. وبعد القضاء على إرهابي داعش وطردهم من الأرض المقدسة (شنكال) أعلن الإيزيديون الإدارة الذاتية في شنكال، مما جعلهم عرضة لاستهدافات متكررة من الدولة التركية ورفضاً لإراداتهم من جانب الحكومات العراقية. وفي منطقة عفرين التي احتلتها الدولة التركية ومرتزقتها عام 2018م تعرض الإيزيديون هناك إلى التهجير القسري من قراهم وأراضيهم نتيجة الحرب والقصف التركي، فيما لجأ المحتلون إلى تدمير التراث الديني والتاريخي الإيزيدي من مزارات وأضرحة وغيرها.
كان الإيزيديون في سوريا يعانون الاضطهاد المركب -كما ذكرنا سابقاً- منذ نشوء الدولة السورية في عشرينيات القرن العشرين، فمن جهة كان يُرفض الاعتراف بممارساتهم وطقوسهم الدينية وبديانتهم وزواجهم في السجلات المدنية حسب العقيدة الإيزيدية، ومن جهة أخرى يُرفض كرديتهم وممارسة حقوقهم الثقافية والقومية وغيرها، وكان التفاعل الاجتماعي بين الإيزيديين وغيرهم معدوماً نتيجة حالة الطمس والحصار والتشويه المطبق على المجتمع الإيزيدي. لكن كل هذا تغير منذ عام 2012م بقيام ثورة شعوب ومكونات شمال وشرق سوريا، ووجد الإيزيديون قوتهم الذاتية وحريتهم في خضم هذه الثورة، فشاركوا فيها ونظموا أنفسهم وأنشأوا تنظيماتهم ومؤسساتهم الثقافية والمجتمعية الخاصة بهم، ليساهموا مع أبناء جلدتهم – الكرد- والشعوب المجاورة لهم – العرب والسريان والشركس والشيشان والأرمن والتركمان- في تأسيس الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. وقد أكد العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية على خصوصية المكون الإيزيدي وحريتهم التامة في ممارسة وطقوسهم الاجتماعية والدينية.
من الأهمية التأكيد على البحث الموضوعي والأكاديمي العميق في تاريخ وماضي وتراث الإيزيديين لتحديد تصور دقيق لمسيرة الديانة الإيزيدية ومدى قدمها واستقلاليتها وأصولها وتفاعلاتها وعلاقاتها مع المعتقدات الأخرى وخاصة مع أولى الديانات التوحيدية كالإبراهيمية والزرادشتية والميترائية.. وفي هذا السياق يقول القائد والمفكر عبد الله أوجلان: “فإذا ما رُصِدَ الكردُ الإيزيديون والكردُ العَلَوِيّون عن كثب، فستُستَشَفُّ بكلِّ سهولةٍ خصائصُ الديمقراطيةِ والحريةِ والمساواةِ الكائنةُ في الثقافةِ الزرادشتيةِ التي تَتجسدُ في نسائِهم بشكلٍ خاصّ. ورغمَ كلِّ الممارساتِ القمعيةِ المُسَلَّطةِ عليها، إلا أنّ جوانبَ الالتحامِ مع الطبيعةِ والجرأةِ والقولِ الصريحِ فيها جديرةٌ بالدراسة”.
يأتي أهمية تناول مسألة “الإيزيدية والإيزيديين” إظهاراً لحقيقة هذا المكون الذي تعرض للتهميش والحصار الممنهج طوال القرون الماضية وتأكيداً على أصالة وعراقة الديانة الإيزيدية ومعها شعوب وملل ومعتقدات المنطقة، وعليه فقد ارتأت هيئة التحرير في المجلة اعتمادها كملف للعدد الجديد (الرابع عشر)، إضافةً إلى أن العدد يحتوي على مواضيع ونتاجات أدبية أخرى قيمة، راجية من القراء الأعزاء الاستفادة القصوى والفائدة المرجوة.