خلقنا لنبكي – محي الدين أرسلان

المشهد الأول
(بقعتا ضوءٍ على الخشبة بلونين مختلفين, أشخاص يتجمعون في البقعتين, أحد الأشخاصِ في إحدى البقعتين، يفتح حقيبة دبلوماسية، والبقية يضعون فيها قطعــاً نقدية، الجميع في هذا المكان يرتدون بذاتٍ أنيقة، الأشخـاص الذين يقفــون في البقعةِ الأخرى يرتدون لباساً بالية ويؤدون الصلوات للرب).
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً على الخشبة
****
المشهد الثاني
(موسيقى – إضاءة ٌخافته على جانبي الخشبة، تظهر من خلالها أعلامٌ بلون النار وأخرى زرقاء في الطرف المقابل. تتمايل الأعلام منسجمة مع توتر الموسيقى، تشتدُ الإضاءة قليلاً، تكشفُ عن مجموعة من الأخيلة في اليمين واليسار. يشتدُ توتر الموسيقى وتتسارع حركة الأعلام. صوت بوق معلناً البدء – إضاءة – تتداخل الأعلام وتتصارع، يشتد توتر الموسيقى ويشتدُ الصراعُ، لوحٌ كـُتِبَ عليه “خلقنا لنبكي”)
يخيّم الظلام
****
المشهد الثالث
(إضاءة – يدخل رجل من عمق المسرح، ملابسه توحي بأنّه “كاتب… شاعر… موسيقي”. يحدثُ نفسه).
الرجل: (بصوت قوي غليظ) اسمعْ أيُّها الشاعرُ، المسرحية ُبدأتْ. يجبْ أنْ تكون القصيدة جاهزة وملحنة في نهاية العرض، أو ترى نفسك خارجاً.
(بصوتٍ ضعيفٍ رفيع): حاضرْ، ولكنْ يا أستاذنا المخرج، الشعر بحاجة
إلى إلهام قد….
(الصوت القوي الغليظ مقاطعاً): هذا ليس منْ شأني. إنـّها وظيفتك، أريد إنهاء العرض بأغنية.
(بصوتٍ ضعيفٍ رفيع): هـل من الضرورة إنهاء العرض بأغنية؟
فالعرض….
(الصوت ُ القوي الغليظ ُ مقاطعاً): ما شاء الله، فلتقفْ مكاني ولتكنْ أنتَ المخرج.
إنَّ الأغنية َفي الختام أيُّها الغبي أصبحت من العادات، بلْ من المقومات الأساسية للعرض الناجح وأصبحتْ “موضة العصر”. كفاكَ ثرثرة، الوقتُ ضدنا.
اذهبْ وابحثْ عن هذا الإلهام (بسخرية) قدْ تجده نائماً في الكواليسِ، أو ربّما تحت أحد المقاعد في الصالةِ. انتهتْ المقابلة رافقتكَ السلامة.. وتذكرْ بأنكَ سترى نفسكَ..
(بصوتٍ ضعيفٍ رفيع مقاطعاً): خارجاً.
(بصوتٍ قوي غليظ): أحسنتَ، لقد فهمتَ الدرسَ جيداً.
(بصوتٍ ضعيفٍ رفيع): سترى نفسكَ خارجاً.
(يستمرُ في ترديد الجملة، يخرجُ ويتلاشى صوتهُ)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد الرابع
(إضاءة – الموسيقى والمنظر يوحيان “حالة الفقر”. في وسط المسرح امـرأة حاملْ تخبزُ الخبزَ، على يمينها سريرُ طفل، تقوم بتحريكه بقدمها. وعلى مقــــربة منها قدرُ غسل ِالملابس والنار موقد أسفلها. تتحركُ المرأة ُفي المكان بالتناوب ” الخبزْ.. السريرْ غسل الملابس “تسقط أرضاً وقد هدّها التعب).
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد الخامس
(إضاءة – الموسيقى والمنظرُ يوحيان “حالة الثراءِ”. في وسطِ المسرح ِامرأةٌ حاملْ متربعة ٌعلى الكرسي كالملوكِ على عروشها، في يدها اليسرى مروحة ورقية، وفي الأخرى جرس ترنُ به. تدخلُ عليها الخادماتُ).
الخادمات: أمركِ سيدتي؟
السيـدة: (تشيرُ إلى كلٍ منهن بنظرةٍ من عينها) ها.. أنتِ! دلكي كتفيّ
الخـادمة: حاضرْ يا خانم.
السيدة: وأنتِ قلِّمي أظافري. (تتألم) آي.. ليس هكذا أيتُها الحمقاء، لقد نزعتي كتفي من مكانه. نزعَ اللهُ روحكِ من جسدك. ها….. وأنتِ! دلكي قدميًّ بالماء (بألم) آآآآآآآي.. (بغضب) الماءُ ساخنٌ أيـّتها الجدباء، أحرقكِ اللهُ في نار جهنم. وأنتِ أمسكي هذه المِـروحة عنّي ولا تتوقفي عن تحريكها. ها أنتِ!… وأنتِ!… وأنتِ!…..
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد السادس
(بقعتا ضوء تصدران من وسط المسرح، يظهرُ من خلالهما خيالان يتبـدد الظلام عنهما فيبدو جنينان في الرحم، أحدهما يضحك والآخر عابس).
الجنين العابس: لقد كان يوماً شاقاً، أشعرُ بعظـــامي وهي تتكسر، رغم أنّها لم تكتملْ بعد.
الجنين الضاحك: (بسخرية وفرح) كانَ اللهُ في عون عظامكَ أيُّها النحيلُ الهش…
الجنين العابس: لست هشاً أيُّها البرميل. إنّ عظامي تتكسر، لكثرة نشاطي. من العجن والخَبز وغسلِ الملابس، فأمّي ومنذ الصباح الباكر تتحركُ، تهزُّ سرير أخي تعجن… تعصر… ولم تتوقفْ حتى المغيب.
الجنين الضاحك: أما أنا… (بسخرية) أيُّها النحيــلُ الهش. فمنذ ُالصباح تقمنّ الخادماتُ على خدمتي، يُدلِكنَ كلَّ شبر في جسد “الماما” ويُقلمـن أظافرها. ثم عليك أنْ تحمد الله، على أنّ عظامكَ تتكسر الآن، لأنّها إنْ لم تتكسرْ، فوعداً مني بأنّها سوف تتـكسر قريباً، تحت وطأة هذا البرميل، الذي لا ينالُ إعجابك.
الجنين العابس: (يضحك) يا لك من مغرور أيُّها البرميل. يبدو أنك لا تعلم بأنك برميلٌ فارغ، وأن هذا النحيلَ من سيُكسـرُ كلَّ شبر في جسدك.
(يحتدُ الصراعُ بينهما، تتعال أصواتُهما)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد السابع
(بابان متجاوران في عمق المسرح، يفصلُ بينهما جدار. أحدهما أنيقٌ وجميل، والآخر هشٌ ويحوي شقوقاً. يقفُ عند الباب الأنيق رجلٌ ضخمٌ، وسمين، من ملابسهِ يبدو عليه الثراء. وفي الطرف الآخر، رجلٌ نحيلٌ يحضنُ طفلين “فتاة ٌوصبي” يدخلُ عليهم الطبيب. صوت امرأة تصرخ).
الأب: (يتحرك باتجاه الطبيب يحمل عنه الحقيبة) أرجوك، أسرع ْأيّها الطبيبُ، إنّه مخاض الولادة، أرجوك أسرع…
الطبيب: (بلا مبالاة) نعم، نعمْ. أينَ هي؟
الأب: (يفتحُ البابَ) تفضلْ منْ هنا.
(يخيّمُ الظلام ُويضاءُ الطرف ُالآخـرُ من المسرح، والرجلُ السمين ُيتحرك ُيميناً ويساراً. يدخلُ الطبيبُ).
السمين: (غاضباً) إلى متى سيبقى ولدي في انتظارك، أيّها الطبيبُ الكسول.
الطبيب: (يتلعثم) أسف على التأخير يا سيدي، لقدْ كنتُ…..
السمين: (مقاطعاً) هذا لا يهم، فقدْ ضجـِرَ ولدي من الانتظار، وضجرتُ معه. مهمتك الآن، أنْ تنهي الضجر والملل.
الطبيب: حاضرْ يا سيدي.
السمين: ها… أنتظرْ… شيءٌ آخر… أريده صبياً.
الطبيب: (مندهشاً) ولكن يا سيدي! إنّها مشيئة الله.
السمين: لا أريدُ نقاشاً في هذا الموضوع. أريدهُ صبياً…. وسيماً (مفتخراً) مثلَ أبيه تماماً. ليحمل الراية بعدي.
الطبيب: (يحدثُ نفسهُ) يا لهُ من مغرور وقبيح.
السمين: ماذا قلتْ؟
الطبيب: (مرتبكاً) ها.. لا شيء، لا شيء يا سيدي. صبياً وسيماً مثلك.. هذا ما قلته ُيا سيدي.
(يخيمُ الظلام، يضاءُ الطرف ُالآخرُ من المسرح. يخرجُ الطبيبُ من الباب الهش يتجمعُ حوله ُالأبُ والطفلان).
الأب: ماذا أيُّها الطبيبُ؟ هل زوجتي بخير؟ هل وضعتْ جنينها؟ (مستدركاً) لا.. لا فما زلتُ أسمعُ صوتها.
الطبيب: (بلا مبالاة) تحتاجُ إلى ” قيصرية”
الأب: (مندهشاً) ماذا؟! لم أفهمْ ماذا تقصد بـ “القيصرية“؟
الطبيب: (بسخرية) جاهل. إنـّها عملية جراحيّة، سنقوم بفتح البطن، وإخراج الجنين. وإلا
الصبـي: (مقاطعاً) وإلا ماذا، أيـّها الطبيب؟
الطبيب: وإلا – الماما – ستكونُ في خطر هي وطفلها.
الفتـــاة: وماذا تنتظر؟ لماذا لا تجري العملية؟
الطبيب: (يحمـلُ حقيبته يتجه إلى زاوية المسرح، حيثُ باب الخروج، يشيرُ إلى الأب) أسمعْ يا أخ، الولادة عسيرة، وتهدد حياة َالأمّ والجنين.
الأب: والحلّ أيـّها الطبيب.
الطبيب: مثلما قلت “القيصرية”
الأب: ولتكنْ.
الطبيب: هلْ تملك المال اللازم لأجراءِ العملية؟ إنّها باهظة الثمن.
الأب: لا(متردداً) في الحقيقة…. مثلما ترى.
الطبيب: (متجاهلاً) لم أفهمْ ماذا تقصد. هل تملكُ المال؟
الأب: (متردداً) نعمْ. ولكنْ.. ولكنْ إذا كانَ المبلغ ُمقسطاً.
الطبيب: (بسخرية) وهلْ تريدُ أن تضعَ زوجتك طفلها بالتقسيط. الوقتُ يمضي ولدي عمل، مع السلامة…
الفتاة: انتظرْ أيّها الطبيب (تخلعُ من أذنيها قرطيّها) هذه هدية أمّي يوم نجاحي سأبيعها.
الصبي: (يخلعُ الساعة من يده) وأنا سأبيعُ ساعتي، إنّها هديّة أمّي يوم عيد ميلادي.
الطبيب: (يضحك) لا يكفيان لشق البطن. مع السلامة.
(يخرجُ الطبيب، وتدخلُ امرأة)
الفتاة: أرجوك يا خالة أمّي في خطر.
الصبي: قالَ الطبيبُ “إنـّها تحتاجُ لعملية جراحية”.
الــداية: (تحضنُ الطفلين) لا عليكما، أمّكما بخير، إنْ شاءَ اللهُ
(تشير إلى الأب) أحضرْ ماءاَ ساخناً.
(يخيّـمُ الظلامُ – إضاءة – صوتُ طفلين، يفتحُ البابان في العمقِ، يخرجُ من أحدهما الطبيبُ، ومن الآخر الداية مزغردة).
الطبيب: مباركٌ يا سيدي. زوجتكُ بخير.
السمين: والصبي.
الطبيب: (بلا مبالاة) وولدكَ بخير.
السمين: (غاضباً) إنكَ تثيرُ أعصابي أيُّها الأحمق، تكلمْ، صبيٌّ أم فتاة.
الطبيب: في الحقيقة يا سيدي.
السمين: (بلهفة) ها.. ماذا.. أسرع، وبلا مقدمات.
الطبيب: (يماطلُ في كلامه) في الحقيقة يا سيدي.. الولدُ.. الولدُ.. الولدُ صبي.. صبيٌ مثلك.
الداية: (تزغرد) مباركٌ يا أخي، طفلٌ جميلٌ كالبدر.
الفتاة والصبي: وأمّي يا خالة.
الأب: وزوجتي.
الدايّة: بخير.. لا تخافوا.
يخيّم الظلام
****
المشهد الثامن
(من وسط الخشبة يطلّ الدومريُّ، في يده الفانوسُ، على كتفه حقيبتهُ القماشيّة، يتصفح المصابيح المدلاة من السقف)
الدومري: (متحسراً) أأه… مصابيحٌ، مصابيحْ… قضيتَ العمر في إضاءة المصابيح أيّها الدومري! إنّها حالُ الدنيا. أناسٌ يعيشون حياة مضاءة، وآخرون في سعي دائم لمعانقة النور للحظات. مصابيحٌ، مصابيحْ…
خوفٌ، ذعرٌ وهلعٌ دائمٌ… حالُ من يعيشُ مضاء، خشيةَ فقدان النور. فرحٌ، سعادة ورغد… حالُ من يعانق النور للحظات، يعيشون الحياة للحظتها.
مصابيحٌ، مصابيحْ… ما بينَ الظلمة والنور، صراخٌ وبكاءٌ… أسرةٌ تتأرجحُ وأطفالٌ يدبّون على الأرض ووداع. أأه…. إنّها الحياة. (بشاعريّة):
خلقنا لنبكي… وتبكي الحياة
سريرٌ.. تلاعبهُ الأغنيات
(يخرجُ الدومري ويتلاشى صوتهُ، يدخلُ الشاعرُ)
الشاعر: (بشاعريّة وفرح) نبكي… والحياة تبكي.. سريرٌ.. وأغنيات…
جميلٌ جداً. يبدو أنّهُ الإلهام الذي أبحثُ عنهُ.
خلقنا لنبكي…. وتبكي الحياة
(يخرج ويتلاشى صوته)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد التاسع
(بقعتان ضوئيتان تصدران من وسط المسرح. خيالان يتبددُ الظلامُ عنهما، فتبدو قطتان أحدهما بيضاء، والأخرى رمادية).
البيضاء: (تموء وتتمدد، من ثم تجلسُ كملكةٍ فوقَ العرش ِ) لقدْ كانَ طعاماً لذيذاً (تربد على بطنها) لقد أمتلئ وأصبح كالطبل، احتاج إلـى زجاجة من الحليب الطازج بعد هذا الطعام اللذيذ، ومن ثمَّ استرخاءٌ… ونوم.. سيكون شعوراً جميلاً.
الرمادية: (تموء تعباً) لقد تعبت، منذ الصباح وأنا أطوف على دكاكين الجزارة لقدْ أصبح من الصعب الحصولُ على لقمــة العيش، المعيشة صعبة يا أخي ولكنْ! الحمدُ لله على كلِّ حال.
البيضاء: (تفتحُ زجاجة الحليب. تشرب وتموء فرحاً) حليبٌ طيب… ينعشُ الروح والجسد. ولكنْ ما هذه الرائحة الغريبة! (تبحث عن مصدرِ الرائحة، تصطدم بالقطة الرمادية. تقعُ، تمسك أنفها بازدراءٍ) يا ألهي ما هذه الرائحة الكريهة. أبتعدي عني أيـّتها القطة النتنة.
الرمادية: (بغضب) لستُ نتنة أيـّتها المغرورة.
البيضاء: بلْ نتنة… وجرباء… وحمقاء.
الرمادية: (بغضب) كفاك ِثرثرة (بحزن) أَلم تشاهد في حياتك قطة مسكينة؟ (متحسرة) لقد كان لي فراء أبيضاً مثلك.
البيضاء: (بسخرية) هلْ هذا الفراءُ الكريه يشبه فرائي؟
الرمادية: نعم. ولكنه القدر. القدر من أراد أنْ أحيَّا هكذا، أبحثُ عن لقمة العيش، منذ الصباح وأنا أغطسُ من سلة قمامة لأخرى. القدر من أراد أن يكون فرائك بيضاء (بإصرار) ولكنه لنْ يبقى أبيضاً. فقـد حكم القدر.
(تتشاجران – يحتد الصراع – تقعان أرضاً وقد هدهما التعب)
البيضاء: (تبكي) لقد أفسدتِ تسريحة َشعري (تشم) لقد أصبحت رائحتي كريهة.
الرمادية: (تمسح على شعرها) الدولابُ دارَ يا ماما، الدنـّيا دولاب، يوم لك ويوم عليك.
يخيمُ الظلامُ
****
المشهد العاشر
(بقعة ضوء وسط الخشبة. طفلٌ صغيرٌ يقومُ برصِّ حجارة مكعبة فوق بعضها البعض. ينتهي يقف إلى جانب الحجارة، حذاءٌ بال ٍ ينثر الحجارة، إضاءة، ضحكاتُ الأطفال تتعالى، وهم يتراكضون، ويعيدون رصَّ الحجارة. أما الطفل الصغير، يركض لإحضار الحذاء، بعدَ كلِّ رمية، يرمي بها الأطفال، والأطفالُ في كرٍّ وفرّ لرصِّ الحجارة المتناثرة. موسيقى توحي بعظمة الموقف، يخيّمُ الظلامُ تدريجياً، بقعة ضوء، طفلٌ سمينٌ في يده بعض المأكولات… إضاءة… يشيرُ السمين بيده، يتجمع حوله الأطفال، عدا الطفل الذي رصَّ الحجارة).
الطفل السمين: (يأكلُ بشراسة) جميلٌ جداً، وفرة علينا، مشقة الانقسام إلى فريقين. نحنُ… فريق (يشيرُ إلى الطفل) وأنت الفريقُ الآخر، سنلعبُ لعبة الحمار والعربة.
(ضحكاتُ أطفال)
صـوت: (يضحك) من سيكون الحمار؟
صوت آخر: نعم! هذا صحيح. من سيكون الحمار؟ ومن العربة؟
الطفل السمين: (بثقة) أمرٌ بسيط (يخرجُ قطعة نقدية من جيبه) هذه القطعة النقدية ستقرر، أيَّ الفريقين سيفوز بالعربة، وأيُّهما سيكونُ الحمار.
(يشيرُ إلى الطفل بمكر) ها… أنتَ… ماذا تختار؟ فريقنا أختارَ الصورة وعليكَ أن تختارَ الكتابة، اتفقنا.
الطفل: (لا يرد) .
(يرمي الطفل السمين القطعة النقدية في الهواء، يلاحقها الأطفال بنظراتِهم، تدحرجُ القطعة، يتتبعها الأطفالُ، يتجمعون حولها الدهشة ُبادية على وجوه الأطفال).
الجميع: صورررررة… إنـّها صورة. (يضحكون)
الطفل السمين: (يضحك) والآن… ليصعدَ الجميعُ إلى العربة (يشيرُ إلى الطفل)
وأنتَ ” يا سيد حمار” تفضلْ وخذ مكانك.
(يتجمعُ الجميعُ حولَ السمين ِ. يربطونَ الطفلَ، الذي يبدأ بسحبهم. تتعالى الضحكاتُ).
الطفل السمين: (بسخرية) اسحبْ أيـّها النحيل الهش، فسوفَ تتكسـرُ عظامك الهشة تحت وطأة البرميلِ.
(يطلُ الدومري من إحدى زوايا المسرح، متكئاً على عصاه، والفانوس في يـده ِ. يلاحظ القطعة النقدية… يجلس… يتأمل القطعة النقدية).
الدومري: (باندهاش) إنـّها أغرب قطعة نقدية، شاهدتها في حياتي!! بلغتُ الثمانين من العمر ولمْ أشاهدْ مثيلها… قد تكونُ أثرية… أو ربّما غيروا العملة المتداولة في البلد… ولكنها تبقى غريبة… إنـّها… إنـَّها تحملُ…الصورة َعلى كلا الوجهين! أليسَ أمرها غريب؟!.
(يحملُ فانوسهُ خارجاً)
يخيّمُ الظلام ُ
****
المشهد الحادي عشر
(فتاتان، إحداهما أنيقة الملابس، الأخرى ترتدي ثوباً بالياً، تقفان في اتجاهين متعاكسين من الخشبة).
الفتاة 2: (بشاعرية) يا الله، ما أجملَ ثوبها!
الفتاة 1: (تتأوه) مللتُ وضَجِرتُ ملابسي… أعيشُ في خوف دائم من اتساخها عليَّ دائماً الظهور بمظهر أنيق… لا أستطيع اللعب بحرية كبقية الأطفال (متحسرة) الرسمُ… ممنوع.. شدُّ الحبل… ممنوع. القفزُ ولعبُ الكرة.. ممنوع. ممنوعٌ… وممنوع…. كوابيسٌ أينما ذهبت.
الفتاة 2: (بشاعرية) يا له من شعور جميل، أنْ ارتدي ثوباً كثوبها (تتباهى في مشيتها) عندها سألفتُ أنظارَ جميع فتيات حارتنا، سوف تتهامسن:
- جاءت الأميرة…
- وها هي الأميرة…
- وعادت الأميرة…
(تضحكُ بفرح) سأقولُ لهنَّ “إنَّ أبي أحضرها لي خصيصاً من باريس. وإذا حاولن لمسها، سأضربُ بقوة ٍعلى يديهنَّ. (بكبرياء) ها… ابتعدنّ فسوفَ توسخن ثوبي.
(تضحكُ بشدة) أما الشباب.. آهن.. من الشباب، سأسلب عقولهم جميعاً، سوف يشكلون طابوراً طويلاً ً أمامَ منزلنا (تتحسر) آآآه.. أحلمي… فلا تملكين سوى هذه الأحلام. ولكن تبقى مستورة. والحياة لا بدّ لها أنْ تستمر، ثم ثوبي لا يعيبه شيء، وهو مستورد أيضاً… من عند جارنا… بائعُ الملابس ِالبالية، الذي يستوردها من جميع أنحاء العالم.
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد الثاني عشر
(منزلُ الفتاةِ 1 – ويبدو عليه الرخاء، الفتاة ترتب مائدة الطعام)
الفتاة1: (بلهفة) مامي.. بابي.. الغداءُ أصبح جاهزاً.
الأم: (بغضب وهي ترتدي معطفها) أستغفر اللهَ.. أستغفر اللهَ من هذه الفتاة أكاد أجن من تصرفاتها، المنزلُ مليء بالخدم. وتقومُ بتجهيز الغداء، دائماً أجدها في المطبخ. تجلي، تطبخ.
الفتاة1: مامي الغداء.
الأم: (بلا مبالاة تحمل حقيبتها النسائية) ذاهبة ٌإلى النادي… “باي”
(يدخلُ الأبُ متجهاً حيثُ باب الخروج)
الفتاة 1: بابا، ألستَ جائعاً؟ الغداءُ أصبحَ جاهزاً.
الأب: (بلا مبالاة) تأخرت، لديَّ عمل… “باي”
الفتاة 1: (بحزن) يبدو أنني سأبقى وحيدة ًعلى المائدة، (تتأوه) لا جديد، ففي كلّ مرة أبقى، وحيدة وسأظلُ وحيدة… (بفرح ) فكرة ٌجميلة، (تنادي ) ها.. يا فتيات. أحضرن لتناول ِالغداء ِمعي.
(الخادماتُ تجلسن إلى المائدة)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
هصبح
****
المشهد الثالث عشر
(منزلُ الفتاة 2 – الفقر يحوم في المكان، الأبُ جالسٌ مع أولاده، يروي لهم حكاية)
الأب: (بحنان مشوق) صديقان حميمان، امضيا أوقاتاً كثيرة، يلعبان ينامان يتنزهان، معاً. (خاطفاً انتباه جميع من حوله) وفي يوم من الأيام بينما كانا يتنزهان في الغابة معاً، أثارتْ حركة الأعشابِ فضوليهما. قررا أن يستكشفا المكان. اقتربا ببطء
(يقترب الأطفال من الأب ويحيطون به) ازدادتْ حركة الأعشاب….
(يقهقعُ الأبُ كدب ٍخائف ٍهبَّ للدفاع ِعن نفسهِ، يفرُّ الأطفالُ من حولهِ خائفين)
دبٌ عملاق وقف كحائط منيع سدَّ عليهما الطريقَ، وأدبَّ الخوف والهلع في قلبيهما أسرع أحدهما كالبرق يتسلق شجرة كانت بالقرب من المكان، والآخر استرخى متمدداً كجثة لا حياة فيها. اقترب الدبّ العملاق من الجثة (يحيطُ الأطفالُ بالأبِ ويلتصـقونَ به خائفين) جلس بالقرب منها، وبدأ يشمها من جميع أطرافها. وبعد لحظةٍ….. غادرَ المكانَ مبتعداً.
((تدخلُ الأمّ، وهي تحملُ قدرَ الطعام في يديها))
الأم: (بفرح ٍوحنان ٍ) ها.. يا أطفال الغداء، الغداء.. أيها الزوج الطيب.
(ازدحامٌ حولَ المائدة، ضحكاتُ أطفالٍ، أصواتٌ تتداخلُ)
صوت 1: ابتعدْ قليلاً يا أخي.
صوت 2: (بدلال) ماما.
صوت 3: (بتلذذ) إنها أطيبُ “مجدَّرة” (1) أكلتها في حياتي.
تتعالَ الضحكاتُ ويخيّم ُالظلام ُتدريجياً
****
المشهد الرابع عشر
(يدخلُ الشاعرُ، مردداً أبياتاً شعرية)
الشاعر: (بشاعرية) خلقنا لنبكي.. وتبكي الحياة
سريرٌ…. تلاعبهُ الأغنيات
(مفكراً) ماذا بعد أيـّها الشاعر؟ لقدْ فقدت الإلهام… (بملل) وهـذا يعني… بحث من جديد.. ولكن أين؟ لمْ أترك مكاناً، لقد بحثتُ في كلِّ مكان، ولكنْ دون جدوى.. (مستدركاً) الصالة!! نعم الصالة.. إنـّها المكان الوحيد، الذي لم ابحث فيه.
(يخرجُ ويدخلُ الدومري العجوزُ).
الدومري: آه.. مصابيح ٌ مصابيحْ. أسرة ٌ من الأبنوس، وملاعقٌ ذهبية، وعروشٌ ملكيّة. يولدون والضوء مسلط عليهم. وفي كوخ موحش مظلم تسمع بكاءً ممزوجاً بالفرح، مبشراً بحياة جديدة.. آه.. إنـّها المصابيح….. (يخرج)
الشـاعر: (يطلُّ من بين الجماهير في الصالة) (بفرح ) أحسنتَ أيـّها الإلهام العجوزُ.. يقولونَ “إنَّ التقدمَ في العمر مصحوبٌ بالخرف” (يضـحكُ) نعمَّ الخرفُ إن كانَ يدرُّ حكماً وأشعاراً. (بشاعرية)
أبداً لم نولدْ كي نبكي
أو نتذمرَ أو نشكي
الحقُ ولدنا كي نفرحْ
إن كانَ لفرحتنا مطرحْ
(يخرج ويتلاشى صوته)
يخيّمُ الظلامُ
****
المشهد الخامس عشر
(منزلُ الطفل النحيل، بقعة ضوء، صورة صغيرة للأب، ربط َبشريط أسود في الزاوية اليسارية العلوية. أصواتٌ تتداخل).
صوت1: رحمهُ اللهُ، كانَ رجلا ًطيباً.
صوت2: (متحسراً) آآآه.. قضى عمرهُ في خدمة أولاده.
صوت3: رحمة الله عليه.
صوت4: رحل تاركاً خلفهُ أرملة وأطفالاً أيتام.
صوت5: كان الله في عونهم.
صوت6: عظم الله أجركم.
صوت7: البقية ُفي حياتكم.
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً وتتلاشى الأصوات
****
المشهد السادس عشر
(منزلُ الطفل السمين – بقعة ضوء – صورة كبيرة للأب أحيط بالورد. مربوط بشريط أسود في الزاوية اليسارية العلوية. أصوات تتداخل).
صوت1: (هامساً) غريبٌ أمرهم!!, البسمة ُ تتفجرُ من شفاههم!!
صوت2: (هامساً) ولماذا الحزنُ يا صديقي؟ المرحومُ رحل، لكنَ ثروته باقية.
صوت3: (هامساً) يقولونَ “إنـّها ثروة ضخمة”.
صوت2:(هامساً) ولما لا، ملياراتٌ في البنوك، عقاراتٌ لا تعدُّ ولا تحصى، شركات…. سيارات.
صوت3: (متحسراً) آآآه.. الله يرزقنا
صوت1: سبحانَ الله، الله يرزقُ من يشاء.
صوت4: عظمَ اللهُ أجركم.
صوت5: رحمهُ اللهُ.
صوت6: البقية ُفي حياتكم.
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً وتتلاشى الأصوات
****
المشهد السابع عشر
(منزلُ النحيلِ. أصواتُ زغاريدٍ. عروسان)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد الثامن عشر
(منزلُ السمين ِ. أصواتُ زغاريد ٍ. عروسان، العريسُ في يده ِبعضُ المأكولات ِ)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد التاسع عشر
(منزلُ النحيل، ضحكاتُ الأطفال، الأمُّ تتحركُ بصعوبةٍ بسبب حملها. الأبُ النحيلُ يلعبُ مع أطفالهِ)
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد العشرون
(منزلُ السمين. الأبُ السمينُ وفي يده ِالمأكولاتُ إلى جانبهِ الزوجةُ. من حوليهما الأطفالُ في أفواههم أطعمة).
فلاشُ كاميرا – ثبات
يخيّمُ الظلامُ تدريجياً
****
المشهد الحادي والعشرون
(عجوزان، سمينٌ في يده ِحقيبة، ونحيل – كفنٌ أبيض يتدلى وسط َالمسرح)
النحيل : والآن أيـّها البرميل، الساعة حانت. انظر جيداً إلى هذا الكفن المدلى إنه خط النهاية (ضاحكاً) أنصحك بأن لا تحمل نفسك مشقة الحصول عليه. فهو قدري المحتوم.
السمين: (ساخراً) لا تكنْ واثقاً أيـّها النحيلُ الهش، (يلوحُ بحقيبتهِ) ما دمتُ أحملُ هذه الحقيبة فهو نصيبي.
النحيل: ألم أقل لكَ “بأنكَ برميلٌ فارغ، ولى الزمنُ يا صاحبي، والدولابُ دار دورته، المال لن يغير قدرك”.
(يدخلُ الدومري والشاعرُ، يرددان أبياتاً شعرية)
الدومري : (متحسراً) آآآه… خصوصاً إن ولدَ فلانْ
الشاعر: (بشاعرية) فوقَ سريرٍ من أبنوسْ
الدومري: وبفمه ملعقة ذهبْ
السمين : ما دمتُ أملكُ المالَ، فالدولابُ يدورُ معي ولن يفارقني. من هذا الأحمق الذي يفارقُ الثروةَ والجاه.
النحيل: (ساخراً) يبدو أنكَ فقدتَ عقلكَ. الحقُ معكَ، الحقيقة ُتفوقُ تصوركَ.
(يقتربُ الكفنُ من العجوزين، يحتدُّ الصراعُ بينهما، الكفنُ يتمايلُ فوقَ رأسيهما، تزدادُ الموسيقى توتراً، يسقطُ الكفنُ فوقَ العجوزِ النحيلِ. أوراقٌ ملونة ٌتتساقطُ على الخشبةِ، الأعلامُ الزرقاءُ تتمايلُ، يخيّمُ الظلامُ ومن ثم تضاءُ الخشبةُ. فرقة ٌموسيقية ٌ. مغن ٍومغنية).
أبداً لم نولدْ كي نبكي
أو نتذمرَ أو نشكي
الحقُ ولدنا كي نفرحْ
إن كانَ لفرحتنا مطرحْ
***
خصـوصاً إن ولد فلانْ
فــوقَ سريرٍ من أبنوسْ
وبفمهِ ملعــقة ذهـبْ
***
أو ولدَ لبيتِ الجيرانْ
أبنٌ منتوفٌ منحوسْ
وبفمهِ ملعقة حطبْ
***
قولوا.. قولوا ماذا نفعل؟
هيا قولوا ماذا نحكي؟
***
ستار
*كلمات الأغنية للقاص والأديب السوري: محمد أبو معتوق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- المجدّرة: من الأطباق السورية المشهورة في ريفها، تطبخ من البرغل والعدس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مخرج وكاتب مسرحي، مواليد عفرين 1982، خريج كلية التربية بجامعة حلب في 2010، يعمل بالمسرح منذ عام 1997، عضو كومين فيلم روج آفا-إقليم عفرين.