الهاربُ ــ جلال نسطاح
أصواتٌ، هي إلى الهيجان أقرب، لا تزال تُلاحقه، وهو يتسلَّل نازلاً الدَّرج:
– ما عدتُ أتَحَمَّل هذا العبء!
– أشمُّ فيه رائحة حلوى. أتريدون حتفه؟!
– كلا. ليست نوبتي حتى أرافقه إلى المرحاض!
– فليتُهْ! إنه العذاب بعينه!
البيتُ ساكنٌ، ولا يدري مأتى الأصوات، غير أن رغبةَ الإنصاتِ إليها تَضْعُف شيئاً فشيئاً، باقترابه من غايته، وباللذاذة المائعة التي يُغازلها بلسانه. مُرتجاه أن يَنْحلَّ عنه تعبُ النفس، مثلما تسيل الآن مربعات الشوكولاتة في فمه.
في تساؤلٍ يمد يداً تواقةً إلى الأُكْرة: “ماذا لو حُبستُ كالعادة بالمفتاح؟!”، بعينين لا تطرفان يُديرها، فإذا بالصدر ينشرح بانشراح الباب.
صوتُ انجرار النعلين الجلديتين يرافقه، ويُجاهد ألا تتملَّصا من قدميه الزلقتين، وأصابعٌ رقيقةٌ، طويلةٌ، باردةٌ، يحس أنها تكاد تُلامس قفاه، لتنبهه إلى خطيئة يرتكبها للتو، فينفتل، بين الفينة والاخرى، إلى بناء إسمنتي عريضٍ، ذي ظل مديدٍ، يبدو عليه كهارب يرسف في أغلاله.
في مسلكه تتلاحق أنفاسه باضطراب، ويحس بثنايا جسده تتلزج، أما قلبه فعلى إيقاع صاخب يلومه على بذل الجهد في هذه الظهيرة؛ إذ إن كل شيء يبدو قابلاً للاشتعال، وفي الجو ثقلٌ يجعله زاحفاً أكثر، مما يدفعه إلى الإسراع قدر استطاعته. وعندما يلحظ رجلاً يتظلَّل بشجرة النارنج، وينظر عن عُرض إلى أسفله، يدرك أن لا مقدرة ولا إرادة لديه لكَسْفِ البصر في شأن خفة القدمين، ولكنه يرى هذا الإرهاق أرحم من وثاق الجدران المشدود إلى أعصابه، الذي لا يتوتَّر بقعقعة الأواني، وسُم الأصوات فحسب، إنما كذلك يتذبذب بأدق الاهتزازات، وتشنج الحركات، ولَبطات مُريبة لا مبرر لها في آخر الليل، وهو بمفرده في غرفته بلا حماية، وبهاجسٍ: أحدٌ ما ينوي الخلاص مني!.. ويعلم أنه ما اعتاد الخروج إلا في الأصائل: يُتنزه به بكسل على مقربة من سُكناه، ككلب برَسَنٍ قصير، ثم يُحضر له كرسي واطئ من القنب، يُوضع له عند عتبة البيت، فيُخيَّل إليه أنه مُستعطٍ، يُطأطئ الرأس على الأغلب، بحذاء مراقبٍ لا يتكلم إلا عند الضرورة، وبإجاباتٍ مُتنمرة. تَنْخُسُه رؤاه، فيتقدم أكثر على رصيف مستقيم حتى لا يتوه، ويبدو أحمقَ للعيان، وينقشع شيء من الغمِّ بعد إدراكه انقشاع ذاك الظل المديد.
وحين يلوحُ له مفترق طرق – لا يريد شفقةً ولا إعانةَ أحد على قطع الطريق – يستند إلى عمود إشارة، ويمسح باطن القدم ليُخفف من ألم وخزاتٍ طفيفةٍ. إلى يساره يلمح من رتاجٍ وسعةً ظليلةً، ويفكر أنها ستقيه لا محالة من رعنات الشمس، وستكون ملاذاً للراحة. ينحرف إليها بتعب.
في دخوله تُقبل عليه رائحةُ التراب المبلول، كأنها تُرحِّب به. على جانبي الممشى يتلألأ العشب المُسقى بمرشاتٍ أرضيةٍ. الأرجاء قد انسلتْ بأشيائها من قبضة ذاكرةٍ ليستْ إلا ومضاتٍ لا تلبث أن تخبو، فيقع صاحبُها في شَرَك التخمين: ربما شابه المكان مكاناً آخر كان يرتاده، إلا أنه لا يتعرَّف غير ما بداخل البيت – داخلَ غرفته بالأخص- ومَنْ بداخله، وذلك بعد قدح زناد الذاكرة الرملية أحياناً، ولا يكاد يتعرَّف غير الذين يمرون عليه مُسَلِّمين، وهو على ذاك الكرسي المشؤوم، بعد رفع البصر عن البقعة المنكوتة بسأم ، عند العتبة، أتطلع اليهم غادين رائحين، ألعن وألتعن، لا يهم، ما مضى قد مضى، الأهم أن المكان مستألفٌ، وأنا غريبٌ وسْط الغرباء، لا يحدقون بقلة حياء ولا يُسلِّمون، والوجوه مستلطفةٌ بهرجها وهدوئها، والألفةُ تزيد بشقشقات طيور، غير صادرةٍ عن خوف، بل عن بهجةٍ وأمانٍ، وظلالُ الأشجار المتفاوتة الطول، اللفاء، وأناقةُ الزوار تسلمني إلى مزاج رائق، قلَّما يروق، أجل لا يهمهمون بالسوء، ثم يحزرُ أن اليومَ يومُ عيد ما، وهو غافلٌ، لا يهم، الأيام يا رفيقي تتشابه، ويبدو أنها لن تتشابه بعد الآن، ثم كمَنْ يعثر على تحفة ثمينة، يُكاشف نفسه بصوت مسموع:
– هو ذا بيتي!
يختار مقعداً إسمنتياً تحت ظل شجرة الكاليبتوس. يجلس متأوهاً بدلال. يمسح العرق عن جبينه، ويُسرِّح حواسه. أنفاسه تأخذ في الانتظام. يُركِّز على سيقان رقيقة، فيتعالى شيء في ذاكرته يستأنسه، مثل كوة محفورة في أعلى الجدار، يغمض لها العينين هنيهةً ليستعيد لذةً بعيدةً، ثم يفتحهما برَويَّة على لمعات الأشعة، التي بِهبَّاتِ ريحٍ دافئةٍ تتغامز، بين أوراق شجرات وفروعها المتداخلة، ويصعد إلى الكوة بسلاسة، يُطل منها، فيرتخي لتقاذف الكرة باتجاه مرمى مرسوم على السور، ويَنْشدُّ أكثر فأكثر إلى حركات أجساد تتشابك وتفترق، مصدرةً احتجاجات وتنبيهات، يُذهَل مُستحباًّ نشاطَ الأفخاذِ والسواعدِ، فتُولدُ بسمة رضى، ثم ضحكةٌ خفيفةٌ، ثم رغبةُ إلقام الفم الشوكولاتة، إنهم لا يبالون، فقط يمرحون، أكيدٌ أن الأحجام الصغيرة لا تستوعب الغدَ ولا الأمسَ هناك، غير آبهةٍ لشيخ أعرج، ربما يحرس الحديقة، ربما أعرفه، ربما شابه مَنْ كنتُ أعرفه، لا يهم، جُبِلنا على حَمْل أشياءٍ واحدةٍ، نختزنها في الدواخل، مع اختلاف الملامح، وها هو يُهَددِّهم:
– سَأُكَسِّر سيقانكم يا أولاد!
بِعَرجه ومسكنة الصوت لا يبالون، بالكرة النطَّاطة فقط يبالون، والكوة تصير مطاطةً، قليلاً قليلاً يُوَسعها، كي يملأ الضوء ما بزنزانة الذاكرة، بِلَطمات الكرة العنيفة على السور تتَّسع وتتَّسع، لا يدرون أن إلى القلب عُهدت خيانة القلب، وما أقسى غدره، لا يدرون بما تدريه يا رفيقي ولا تدريه، لا يبالون، وهاهم يهربون، يكرُّون، وما جدوى أن تدري أو لا تدري؟، يستفزون، حاولْ أنْ تستفز!، يلعبون، مِن حولهم يثيرون النقع، حاولْ أنْ تقفز!، بعضُ الجالسين يَنْهر العُصبة الهائجة، وفي لحظةٍ خاطفةٍ يصير بخِفَّة تلك الساقين المسفوعتين، ببطَّتين صلبتين، بدُربة المُتَمرس يتلاعب بكرة أكثر ثقلاً من تلك، على ملعبٍ ناءٍ ذي ترابٍ مائلٍ إلى البياض، لا يدري موقعه بالضبط، لكنه لصيقٌ بمرآه الآن، كسديم صباح رمادي، وفي يده ظرفٌ مدعوكٌ يحمل نتيجته الدراسية الرديئة، سالياً عن عين الأب المزرورة تأهباً للصفع، وعرقه، واتساخ ثيابه، والأم القرَّاصة، يترك يداً ثافنةً تَمْرتُ، تَمْعسُ- كما لو أنها ليست يده- قطعَ الشوكولاتة، ولِحَظِّ رأسٍ حذقٍ يُمرِّر كرةً عاليةً، يُراوغ، دافعاً بخبث يحتك، يركض وقلبه على إيقاع راقص يُحرِّضه: مزيداً مزيداً من الحركة، فالبيوت للمتأنثين، للمخبولين.. للعاجز كذاك، يسقط، بالناهرين لا يبالي، للكرة هناك ينهض، هدفاً يُسجِّل رأساً، ثم اثنين، ثلاثة، بقدمٍ لا ترتضي الارتعاش، ولا تُخطئ المواطئ، ثم فرَحاً يهتز ورفاقه نِكالاً بالحي المنافس، ودائماً للنصر سينادونه، ناقرين النافذة، بحُجيراتٍ يقذفون بها، وبنبراتٍ مختلفةٍ ها هم يستغيثون:
– عُمَرْ… عُمَرْ… عُمَرْ…
وحين ييأسون، يُنادي عَلِيٌّ الأكرش، حارسُ المرمى، ذو الصوت الحاد، مُمَدِّداً حروف الاسم:
– عُــ…مَــ…رْ…
كالملسوع ينتفض، يخِفُّ، يَسْتحلي الاسم الحافي عوض الاسم المقرون بصفة الحاج أو الشريف، مع أنه ما حجَّ قط، وبعضُ أفعاله لا تليق بالشرفاء، لا يهم، الكبار يكذبون، والكذبُ عادةٌ، وما أكره كذبهم إلى نفسي، متى كُشِف القناعُ، قناعي، أنا الكاذب، الأخطرُ أنهم يعلمون أنهم كاذبون، مكراً لا يبالون، لا أبالي، فأكذب، وأكذب.. ويتسلَّل نازلاً الدَّرَج، آملاً ألا يكون محبوساً بالمفتاح كالعادة، وجَلَبة نقار الوالدَيْن تحوم حول رأسه الصغير، دون أن تدخل أذنيه، ومُحاذراً ألا يَصِرَّ البابُ يفتح، فيدِفُّ طائرُ الصدر، وهناك لن يكون زائداً عن الحاجة، كنوفل الهزيل، حارسُ محافظ الرفقاء، فيقذف، يُمرِّر، وينبري لهم ذاك الشيخ، ربما يحرس الملعب:
– سَأُكَسِّر سيقانكم يا أولاد!
اللعبةُ ساكنةٌ، متروكةٌ، لجِرم بطيءٍ، مُقوَّسٍ، وكما يَخْتطف قِط فريستَه، هو الأشجع، يَسْتردها من إبط الآبق، بثقة كاذبة، إلى مركز حراسته، وبالهاربين يلحق صائحين، مستفزين، ويُمرِّر، يقذف، فتَنْحَلُّ قبضتُه عن عكازه، بضربة مباغتة. يهمس متسائلاً لنفسه، ودبيبُ رعشةٍ يعتريه:
– أهي كُرتي أم كُرتهم؟!
كطفل أضاع مَصَّاصَتَه في الزحام، يُناوشه شيء من الضيم، ناظراً إلى الكرة قبالته. يتغافل عن العكاز. ينتبه: عجينةٌ بنية في راحته. حين يهم بلَحْسها تتناهى إليه تلك الأصوات:
– لنا من الأولاد ما يكفي للرعاية يا أبي!
– كلا. نحن المجانين وليس الحاج عمر!
– أما زال يوجدُ مَنْ يمشي حافياً؟!
– لن أبحث عنه بعد اليوم يا جدِّي!
الآن يعرفُ مأتاها. خلفَه تدنو خطواتٌ مستعجلةٌ منه. مُمسكاً عن الالتفات يَلْحسُ عجينته، ثم يُوطِّن النفس على البقاء حتى عودة ذاك الهارب.