أدبية ثقافية فصلية تصدر باللغتين العربية والكردية

طي الكتمان ــ سامح أدور سعد الله

سامح اداور سعد الله

 

كان الشاب دائم الجلوس بمفرده في حديقة القصر، يرسم أوقات طويلة،  فلم يكن هناك ما يشغل باله أكثر من الرسم، كلما تقع ورقة بين يداه أو أي قصاصة ورق كان يرسمها، كان يرسم قطة أو وردة أو حتى شخصاً. يعيش بين اللوحات والألوان وفرشاته، ذات مرة وبينما يمارس هوايته بالرسمِ، دخل إليه صديقه “آدم” أكثر المعجبين والمشجعين لفنه، يقطع خلوته ليسأله: “يا للجمال وفيض الإحساس, ما هو اسم اللوحة؟” كلها دفعها مرة واحدة. نظر إليه مبتسماً، وقال: “ماذا ترى، وما الاسم المناسب لها”. ضحك الضيف وقال: “الولد يسميه أبوه”.

ضحك آدم، وقال: “أرى وضع مختلف في هذه اللوحة التي لا تريد أن تنتهي منها أبداً، ولكن لماذا تتلكأ كثيراً في هذه اللوحة، ولماذا هذه اللوحة بالذات؟

شرد الشاب بعيداً وقد أعاده صديقه للحوار مرة أخرى، “لا لا، ليس تلكأ، ولكن هذه اللوحة تحتاج لكثير من العمل واللمسات النهائية, أرى أنها تحتاج إلى أن تدب الحياة فيها، نعم أراها عاجزة، مشلولة، ليس فيها قلب نابض ولا حياة، نعم هي تحتاج إلى تعديل”.

أستغرب صديقه، وقال: “لكن أنا لا أراها هكذا, هي لا تحتاج إلى أي تعديل، لقد آن الأوان لتختم لوحتك”. إلا أن الشاب تنكر لهذا الرأي، قائلاً: “أنت تراها هكذا، ولكن هذه لوحتي، ووليدة  فكري وإبداعي، وأنا حر فيها، أضع ما أضع، وأحذف ما أحذف”.

أجابه ضيفه: “أي جمال أكثر من ذلك، أني أراها لوحة فاقت كل حدود الجمال، واعلم يا صديقي أن ما تفعله هو خطأ كبير جداً، كل تفكيرك هدام لا يبني، لا مستقبل ولا فنان ولا حتى مشروع فنان. ولابد أن ترى لوحاتك  النور، ولابد أن يراها محبي الفن؟ فلماذا تضع فنك قيد الاعتقال ورسوماتك طي النسيان؟  لماذا الاحتفاظ ببنات أفكارك خلف جدران العقل الكئيب؟ اعلم أنه من الأفضل لك أن تخرج بهم للنور حتى يخرجونك هم غداً للنور”.

أجاب: “وأنا أيضا حر”. فرد صديقه آدم: “لكن أنت يا صديقي تحمل كم هائل من العقد والترسيبات الطفولية الكثيرة التي جعلت منك شخص أناني بخيل يحتفظ بكل شيء لنفسه”.

ضحك الشاب وقال: “ما كل هذا أيها الناقد، لقد جعلت مني فناناً عالمياً  يحمل رسالة سامية للبشرية، وهناك الجمع المتلهفة ليروا أعمالي مثل مايكل أنجلو ودافنشى وربما بيكاسو، من أنا وسط هؤلاء؟ فأنا لست تشيخوف ولا ديكنز، كيف تتهمني أني بخيل، أرفض مشاركتي الآخرين فني وحرمانهم من إبداعي ورسمي”.

ضحك آدم، وقال: “لا يا صديقي الموهوب، مثلك يحمل قلب وعقل فيلسوف، هو ضمير عصره ومرآته،  ولابد أن يطرح كل أعماله وأفكاره ليعالج ويقوّم كل قضايا مجتمعه الذي يعيش فيه. قدر ما استطاع يرقى بهم، يهذب الأخلاق ويترك أثراً ثميناً للأجيال القادمة. الفن هو حضارة الشعوب والأمم المتقدمة”. يقاطعه الشاب: “مهلاً مهلاً، جعلت مني فناناً وفيلسوفاً ومسؤولاً عن حضارة أمم بأكملها”.

أكمل آدم كلامه: “نعم يا صديقي، والآن دعني أطلب منك شيئاً، لابد وأن تستأجر معرضاً، وتقوم بعرض كل هذه اللوحات الجميلة حتى ترى النور, إن لَم تملك المادة هناك قصور الثقافة تتبنى كل هذه المواهب وتدعمها”.

رفض الشاب الفكرة  جذرياً، قائلاً: “لا، لا أريد أي شيء من هذا”.

عاد آدم ليطرح عليه سؤالاً آخراً، “إذا، لماذا تريد حجبها عن البشر ومحبي الفن؟ يا صديقي، لقد رأيت لك لوحة أظن لو تم عرضها لجمعت مبالغ عظيمة. إنها بارعة الجمال، أظنها لوحة غروب الشمس في حضن البحر”.

ضحك الشاب، وقال: “لماذا هذه اللوحة بالذات، نعم أن هذه اللوحة بالذات تمثل لي أشياء كثيرة، كنت أرسمها  وأنا مغتم جداً، صرفت فيه همي، يأسي، حزني، وألمي.  لقد وُلدت من رحم البؤس والشقاء، نعم كنت أعاني في أثناء رسم هذه اللوحة الغدر والخيانة، يوم كنت وحيداً لَم أجد صديق يمد يد العون ويمسك بيدي ليخرجني من كبواتي التي كادت أن تفتك بي، ولكن لَم أجد نفسي إلا من خلال هذه اللوحة، عشت فيها آلامي وأحزاني. نعم كانت هي الشيء الوحيد الذي عبرت به الأزمة، كانت الأيام عصيبة جداً والليالي طويلة قاسية، فكلما ذهبتُ إليها وتأملتها كنت أتذكر كل دقيقة تمر بي منذ أول نقطة في اللوحة إلى آخر لمسة وضعتها في هذه اللوحة، فهي تمثل قصة حياتي”.

يخطف آدم الحديث سريعاً، “إذاً كما أخرجتك هي من كبوتك، أخرجها أنت أيضاً من ظلمتها. نعم كان عندك الداء وجاءتك هي بالدواء. لقد عالجت الأزمة، لماذا لا تترك الباقي يتعلمون من تجربتك ويعيشون معك اللذة الحسية المفقودة في عالمنا الجامد القاسي، فباستطاعتك أن تعالج أمور وقضايا كثيرة في مجتمعك الذي تعيش فيه”.

لكنه عاد ليرفض من جديد ويقول: “ما جدوى نشر لوحاتي”. كانت علامات اليأس تبدو واضحة على وجهه التعس.

يشجعه آدم يأساً، “هناك ربح مادي ومعنوي، سوف تجني من المالِ الكثير، والشهرة تلمع كالنجوم الزاهرة، تصبح شريكاً في صنع الحضارة ورقي الأدب. والآن لماذا لا تعطيني هذه اللوحة التي أعجبت تلك السيدة ونبيعها لها؟ سوف تدفع ما تطلب”.

أجابه الشاب على الفور، “نعم.. لالالا.. هذه اللوحة بالذات أنا لا أبيعها أبداً”. فبدأت يظهر الضيق على وجه آدم، وكرر تساؤله “لماذا هذه اللوحة بالذات؟”.

أجابه قائلاً: “إني أرى العالم كله من خلال هذا الاِطار الصغير، سبعون سنتيمتر في ستون سنتيمتر، ولكن هي تعني الكثير بالنسبة لي”.

صرخ آدم غاضباً، “لماذا كل هذا؟ كل لوحة تعني لك الكثير، كلهم بناتك وأولادك وحياتك وكيانك؟ لكن تذكر ما أنت فيه، تذكر ديونك، تذكر كل من حولك، لقد رحل الجميع، لَم يعد أحد يحتملك، وأنت قد أثقلت عليهم بهمومك ومتاعبك، الدنيا كلها تحتاج إلى المصالح (هات وخد)، ولكن أنت تجتر على ذكريات الماضي البعيد يوم كان أبيك يصنع الخير، تغيرت الأيام ولَم يعد فيها خير. لقد أصبحت كالتمثال مكتوف الأيدي عديم الجدوى”.

نهره الشاب بعنف، “ماذا تريد مني، أجئت ترد لي معروفاً أم جئت تلومني، وتريد أن أبيع  لوحاتي لأناس لا تعرف معنى الرسم ولا تقدره ، إن من يعاديني هو أنت، تفرض علي قيود كي أبيع ما لا أملك أو ربما تطلب مني بعد ذلك أن أبيع قصري، آخر ما أملك في هذا البلد. لكني لن أبيع شيئا, لا قصري ولا لوحاتي، سوف أحتفظ بهم في عقلي وقلبي ووجداني، إذا بعتها الآن لوحة من بنات أفكاري، فغداً ستطلب مني أن أرسم لها لوحات من بنات أفكارها وأصير عبداً لا يملك حتى التفكير في أبسط الأمور. تحرمني هي من كل شيء, كيفما شاءت. لا سيدي أنا أرفض، ولتعلم، الفنان يقف عاجزاً عن رسم أبسط الأشياء، مالم يشعر بها ويحيا فيها. اذهب الآن أيها القواد العاتي، لعلك تجد ضالتك هناك، فأنا لست للبيع”.

تغير كامل ملامح آدم، وقبل أن يرحل، قرر الانتقام من هذا الشاب العنيد البليد كما يصفه هو في قرارة نفسه،  حاول أن يوقع به فى أفخاخه الكثيرة نجا منها كلها، وتمر الأيام وينتهي الشاب من وضع اللمسات الأخيرة في لوحته المزعومة. لَم يستوعب من رآها كم الجمال والمعاني التي تحويها، اللوحة فاقت جمال كل تصور أعجب بها كثيراً، لوحة تجسد مشاعر مظلوم تعرض للقهر من القريب والغريب، يعاني من نير العبودية ومع مرور الوقت يتحرر، تقابله الصعوبات والضيقات، يقع فريسة العبودية مرة أخرى، خطوة خطوة حتى يتحرر نهائياً، ولكن مرة أخرى يطبق عليه الفقر، فلم ينعم بالحرية,  يحاول الهروب في لحظات الضعف، ما عاد قادراً، يصطدم بجدران العزلة، شاهد العالم من حوله صغيراً جداً، الحروب ما أكثرها، حاول الفوز بالحرية  مرة واثنان وثلاثة. كانت لوحة تجسد النصر، نصر الأمل على اليأس، وكسر حاجر الغربة والصمت الذي يرغم الفرد على الخضوع  والتركيع، قد صور الصمت كالعنكبوت الذى ينسج خيوطه حول فريسة تحاول الفرار، ولكن استحكمت الخيوط حولها، وأخيراً استعادت الفريسة قوتها ومزقت خيوط العنكبوت.

كانت لوحة؛ أبهرت كل من رآها، قرر الشاب بيعها  لسداد ديونه، وأن يعيش الحياة كما تكون، أرسل في طلب وسيط ليجمع له المشتري. أيام وجاء الوسيط ومعه المشتري، وبينما يدخل الوسيط طالباً من الشاب اللوحة، هرول مسرعاً إلى الداخل يحضر لوحة الحياة، سمع صوت المشتري يتكلم مع الوسيط،  كان صوت نبراته مألوفاً لدى الشاب، نظر خلسة من خلف الباب حتى شاهد الوسيط والمشتري، وكان الأخير بكامل هيئته,  أصابته صدمة عنيفة، وصرخ بصوت هز أرجاء المكان، أمسك لوحة حياة السنين التي انحنى ظهره من أجلها،  مزقها ولَم يتبقى منها شيئاً سليماً، وسقط مغشياً عليه وسط لوحاته الذى رفض العالم مجرد النظر إليها.