واحة الحلم – جمعة الحيدر
تسوّغ لي نفسي أحياناً الرغبة في الفرار من زوابع الحاضر وفتنه وإخفاقاته إلى واحة الحلم، الرابضة على ربى الخيال الجميل …. وأنا بذلك أمارس سياحة رومانسيّة ممتعة عبر دهاليز الوجدان، شؤوناً وشجوناً، ويمكن وصف حالة الفرار هذه، بأنّها ضرب من التمرد الصامت للنفس بإرادة وبدونها، سراً أو علناً، على ما حولها ومن حولها، مما تراه رمزاً للإحباط في عالمنا الحزين.
إنَّ الحلم الذي أتمناه وأنكره في آنٍ واحد، هو حالة من نور ونار، فهو نور كلما اقترن بالوسيلة المبدعة لتحقيقه، وهو نار كلما حلّق بصاحبه في أجواء يحتضنها السراب، فإذا استعاد وعيه، أو عاد إليه وعيه لم يشهد إلاّ ألسنة من لهب الفشل.
ولقد علّمتني الحياة أن أمرّ الأحلام أعذبها، لكّنها في هذا الحال تظل أطيافاً لا تُضيء حقاً ولا تطفئ باطلاً والحديث عن الحلم معين لا ينضب، يستمد من الوجدان شفافيته، ورحابة أفقه وحميميّة مضمونه، لكنّه في كل الأحوال يظل نجوى مغلفة بخصوصيّة الأنا التي تمنح الحلم شأناً خاصاً لا شأناً لأحد به أو سلطان.
أُوجه دفة الحديث الآن إلى الحلم نفسه من منظور ذاتيّ، أبسّطه عبر عدد من المحاور القصيرة:
الحلم مراتب، أعلاها المستحيل، وأدناها الممكن، وأوسطها ما لا قد يأتي تحقيقه في اللحظة والآن، لظرف زمان أو مكان، أو لعلة من علل النفس والهوى تتطلب ترويضاً يعدل مائلها ويصلح ما أفسده الزمان بها.
وقد يسألني سائل بم تحلم؟ فأقول:
أحلم بعالم مفرّغ من الحرب، مشحون بالحب، نقي من الأثرة، غنيٌّ بالإيثار.
أحلم بعالم يعشق حرّية الإنسان وكرامته، ويبدع في ردم فجوات الفقر والجهل والمرض التي تعوق أداءه حيثما وجد.
أحلم بالعيش سعيداً مع من أحببت وأخلصت له حبي.
أحلم بحياة بين أناس جمعهم الحب وألّفت المحبة بين قلوبهم.
واستشهد على بعض ما أقول بشيء من أطلال طفولتي، فقد كان أغرب ما فيها أنّني لم أحلم يوماً خلالها بأي مما تحقق لي اليوم – بفضل الله -.
سواء في الشأن الشخصي أو العام، والسبب في ذلك أنّ مساحة مهمة من فجر طفولتي كان يكسوها جليد الحرمان، وكنت أحلم آنئذٍ أنْ أنعم كبيراً بما افتقدته صغيراً بدءاً من الغذاء اللذيذ وانتهاء بالرداء المنصف لآدميتي، وأحمد الله من قبل ومن بعد أنْ تحقق لي أكثر مما كنت أحلم به، ووجدت من أحبني واستحق حبي.
وليعلم كل من يهرول في سراب الحلم وسناه:
أنّه إذا تعثّرت به الخُطا في درب من دروب الحياة، ولم ينال ما يحلم به، فلا ينعِ حظه العاثر، أو يلعن الظلام، أو يُلاحق مغتال حلمه، نم ملء جفونك قرير العين وأحلم من جديد، فالأيام حُبلى بكل جديد.
لا تحلم بالمستحيل كيلا يتحول حلمك إلى سكين يغتال فيكَ إرادة الحب والحركة والحياة.
تذكر أولاً وأخيراً أن الحلم أصناف.
منها ما يرقى إلى مستوى الإلهام، ومنها ما يهبط إلى قاع الفشل.
ومنها ما تبدده ريح الغلو، فيغدو هباءً منثوراً، عندئذ يتحول الحلم إلى فضلات تسكن العقل الباطن لا تؤتي خيراً.