الكاتبة نرجس إسماعيل لـ “شرمولا”: أدبُ المقاومةِ هو أدبُ إثباتِ وجود وهويةِ الشعوبِ والمجتمعاتِ ومقاومةِ كافة أشكالِ الاستغّلالِ والظلمِ
حاورها/ دلشاد مراد
لأدب المقاومة دور بالغ الأهمية في حياة الشعوب، وللحديث عن دوره وتأثيره وحضوره في النتاجات الأدبية المحلية بشمال وشرق سوريا، أجرينا حواراً مع الكاتبة الكردية السورية “نرجس إسماعيل”. وهذا نص الحوار:
ـ في بداية حوارنا هذا، وبعد الترحيب بك، نودّ أن نسألك عن الأسباب التي دفعتك إلى الانخراط في فعل الكتابة؟
قبلَ كلّ شيءٍ أشكركم على إتاحةِ الفرصةِ لي كي أتحدثَ عن الكثير من المواضيعِ، والأفكارِ لمجلتنا الراقية “شرمولا”، المجلةُ الثقافيةُ التي يتمُ طبعها باللغةِ الكرديةِ والعربيةِ، نحن فخورون بوجود مجلة كهذه لأنها تشتمل ثقافة تنوّع اللغات، وفي نفس الوقت تحتوي في كلّ عدد مواد غنيةً جداً، ثقافية وفكرية، واجتماعية وأدبية، ونحن نستفيدُ من كلّ عدد عند إصدارها. كلّ احترامي لجهودكم الكبيرة التي تخدمُ تطورَ المجتمعِ والإنسانيةِ بشكلٍ عامٍ.
لأجل الإجابة على سؤالكم عن الأسباب التي دفعتني في عمل الكتابة سأكونُ صريحةً، لأن كلّ إنسان له طفولته، حتى الكون والأرض لهما طفولتهما، الثقافةُ مثلاً لها طفولتها أيضاً. أقصدُ هنا الطفولة بمعناها الفلسفي أي بداياتها. وبالنسبة لي لا بدّ أن أطرحَ طبيعةَ طفولتي، والمسيرةُ التي بدأتُ فيها حياتي كأي إنسانٍ آخر من الجوانبِ الفيزيولوجية، والجسدية، والسيكولوجية الاجتماعية، والفكرية. فمنذ عمر الطفولة تأثرتُ بطبيعةِ وواقعِ وطني “كردستان” والسياسات الاستعمارية والاحتلالية التي طبقتْ عليها، فأنا انتمي منذ طفولتي إلى مدينة قامشلو، والتي تتميّز بأنها ذات طابع اجتماعي، وثقافي يجمع بين المكونات، والأديان، والمذاهب، والطوائف، والثقافات كلها في بوتقة وطنية واحدة، ففي هذه المنطقة الكثير من القوميات والمكونات والشعوب والتي تعايشت معاً، بدون أي تفرقة أو تأثيرات عنصرية أو شوفينية، كما أن اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد لم تدفع الشعوب الموجودة إلى إظهار الكره، ضمن أفكار وسيكولوجية المجتمعات الموجودة.
كانت ولادتي في قامشلو عام 1975، عشت طفولةً شاقةً، إلا أنني مضطرةٌ إلى التطرق في حديثي هذا إلى توضيح النقطة الحساسة، والمبهمة بالنسبة لمسيرة حياتي، فلا أستطيعُ الحديثَ عن بداياتي الأدبية، أوعن كيفية تبلور مشاعري وتحوّل كل المفاهيمُ الموجودة أو الطموحاتُ والآماُل إلى كلمات وقصائد وكتابات، من دون أن أشرح الظروف السياسية، لأني متأثرة بها كثيراً، ولاسيما في تكوين شخصيتي الأدبية والأثر السيكولوجي في مرحلة الطفولة لدي.
أستطيعُ القولَ إنّ مرحلةَ الطفولةِ كانت مأساويةً وتراجيدية وحساسةً جداً، فمنذ عمر الطفولة وأنا أجدُ الأسلاكَ الشائكةَ وراء بيتنا. أسألُ ما هذه الأسلاك؟ والتي نسميها بالكردي (têlên sînor) أو (أسلاك الحدود). وبينما كنت ألعب مع الأطفال بحرية، ظهر فجأةً من خلف الأسلاكِ جنودٌ، وأسلحة موجهة نحونا. لغةٌ مبهمةٌ، ملابسُ وهيئاتٌ غريبةٌ، ملامحُ مجهولةٌ. أدركتُ وقتَها أنني محاطةٌ بالأسلاكِ والقيودِ، حينها فهمتُ معنى أن تعيشَ في وطنٍ مقسّمٍ وحولك الجنود.
طبعاً هذه التناقضات في مرحلة الطفولة تأثرتُ بها كثيراً، وخاصة كلّ ليلةٍ كانت أصواتُ الـ بي كي سي والدوشكا والرصاص تضربُ جدارَ بيتنا الطيني. الخوفُ يغلبنا كلّ ليلةٍ. وفي نفس الوقت عندما كنت أذهبُ إلى المدرسةِ أجدُ في كلّ صباحٍ أن معلمينا يضربوننا بالخيزرانِ على أيدينا، مستغربة من امتناع المعلم من ضرب صديقتي، كونها من المكون العربي، إنهم لا يضربون إلا الكرد، نعم كانوا يضربونني لأنني فقط كردية. إنها تناقضاتٌ الحياة الغريبةٌ والعجيبةٌ. تناقضاتٌ كنتُ أعيشها في السادسة والسابعة من عمري. كيف لي أن أتأقلم مع هذه التناقضاتِ الصعبة؟ وأنا طفلةٌ كنتُ أبحثُ عن طموحاتِ. عن عالمٍ فيه وئام وسلام. فيه ألعبُ بحريةِ. أن أكون حرةً وصاحبةَ قرار. أن يكون لي عالمي الخاص. فأين عالمي الخاص وأين طفولتي وأين طموحاتي مع كل تلك الظروف والتناقضات القاسية التي كنت أعيشُها؟!!
كانت الظروفُ التي كنت أعيشُ فيها في زمنِ الطفولةِ مرحلةٌ صعبةٌ جداً، تناقضاتٌ سياسيةٌ صعبةٌ جداً، الظروفُ المعيشيةُ صعبةٌ جداً، فالمواطنُ السوريُ المثالي كان بحسب النظامِ السوري ودستوره هو من يمثلُ العروبةَ فقط أما باقي القوميات فهم غرباء بمعنى أجانب. هكذا كان وضع الكرد طوال القرون الماضية في سوريا نحن نعيشُ على ترابنا وعلى أرضِ آباءنا وأجدادنا ولكن حسب الدستور السوري نحن غرباءُ عن هذه. حتى أنهم أسقطوا حق المواطنة عن قسم من الكرد باسم “الأجانب” وقسم آخر أسقطوا عنهم حق الحياة باسم “المكتومين”.
كنت أعيشُ ضمن هذه التناقضاتِ، وأنا التي أجدُ الآلامَ والمآسي في بيتنا وحارتنا خاصةً على الحدودِ، كلّ يوم أرى العساكرَ، وكلّ يوم نرى شبابَ يقتلون، ونسمعُ أصواتَ الرصاصِ ونخافُ، وفي نفس الوقتِ في المدرسةِ لا نفس لها، فاللغة الكردية ممنوعة، والملابس الكردية ممنوعة، والثقافة الكردية ممنوعة، وأنا أذهبُ إلى المدرسةِ ولا أفهمُ اللغةَ العربيةَ في عمرِ الطفولةِ لأن ضمن العائلة طريقة العلاقات هي باللغة الكردية. ووسط هذه الصعوبات ماذا سأفعل؟
كان القلمُ هو ميناءُ الأمانِ لدي من كلّ تلك التناقضاتِ والصعوباتِ، وجدت ضالتي عندما وضعتُ القلمَ في يدي، وكتبتُ بعض الجمل. كنت في الصف الرابع آنذاك. من تلك الطفولة بدأتُ بالكتابةِ. لا أستطيعُ القولَ إن انخراطي في الكتابةِ كانت بمعرفةٍ ومستوى وذو عقليةٍ ناضجةٍ. لا أقولُ هذا، ولكن كلّ الظروف التي مررتُ فيها جعلتني ألجأ إلى القلمِ والانخراطِ في الكتابةِ. بدايتي كانت من الألمِ وإلى الأملِ. يعني أغزلُ الألمَ والأملَ في مسيرتي، وبداية انخراطي بالكتابة. إذ كنت أبحثُ عن الحريةِ عن الأمانِ، والمحبةِ، والهدوءِ الروحي.
ـ إلى أي درجة يمكنك وصف قوة وتأثير “القلم والكلمة” أو “الأدب” كشكل من أشكال المقاومة والنضال في حياة المجتمعات والشعوب؟
يعتقدُ بعض المثقفين من أولئك الذين يحملون أفكاراً هشةً بأن الكتابات الأدبية لا تغيّر المجتمعَ ولا تبنيها، ولا تستطيع أن تغيّر الأفكارَ الباليةَ القديمةَ وتبدلها إلى أفكارٍ جديدةٍ وإبداعية، ويرون بأن الأيديولوجيا المطلقة أو السياسة المطلقة البحتة عملياً هي التي تغير، هذه الأفكار أجدها غير صائبة لأن القلم والكلمة هما الروح والجسد معاً، فمن غير الممكن أن تكون الكلمة بدون القلم والقلم لا يمكن أن يكون بدون الكلمة المقاومة، لأن المقاومة لا تشمل فقط الناحية العسكرية، وإنما المقاومة الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والسيكولوجية والحسية والأدبية أيضاً، فكل شعب له مجتمعاته وطبيعته الأدبية، وكل مجتمع له خصوصياته وثقافته وعاداته، فإذا تحول مضمون، وجوهر، وتاريخ ذاك المجتمع، وحقيقته إلى القلم الذي يمثل الكلمة، والحقيقة فستكون لها تأثير كبير.
الشاعر محمود درويش كان إنساناً بسيطاً جداً، وصاحب قلم متواضع، ولكن كلماته كانت مؤثرة جداً لأنها كانت من ضمن الواقع المعاش وعلى الحقيقة، وعلى النضال الدؤوب، فقد كتب عن مقاومة القمح والخبز والأم والزيتون والشعب وفلسطين والحب والحياة، وكذلك الشاعر الكردي جكرخوين كان مؤثراً في نتاجاته الأدبية. كتب عن جمال الأم والمرأة واللغة الكردية والمجتمع الكردي وكردستان وجبالها ومياهها.
أنا باعتقادي ليس كل الأقلام والكلمات والآداب لها تأثير على النضال الفكري أو أن تكون أساساً ومصدراً لتغيير وتطوير المجتمعات، ربما الأقلام والكتابات كثيرة ولكن الكلمة التي تكون صاحبة تأثير هي التي تعتمد وتستند على الحقائق الواقعية، وفي نفس الوقت على المضمون التاريخي، فمن غير الممكن أن نكون مؤثرين إذا كنا أصحاب أقلام هشة وكلمات بسيطة ومعانٍ لا تملك أي عمق أن نكون، مهمة جداً هذه النقاط الأساسية.
إنّ القلمَ والكلمةَ والأدبَ الموجود من المفترض أن يكون ثورياً، ولكن بأي معنى يقصد بها الثورة؟! لأن هناك كثيرون يعتقدون أن الثورة والثورية فقط لهؤلاء الذين ضحوا بحياتهم لأجل القضية.
إنّ القلمَ يحتاجُ إلى ثورةٍ ذهنيةٍ، يكتبُ القلمُ ولكن عن ماذا؟ هل كلماتنا وقصائدنا وقصصنا وحكاياتنا تعبّرُ عن الواقعِ الموجودِ؟ أنا لا أقولُ واقع سوريا أو العراق أو روج آفا. ما أقصده واقع العالم والكون، عن اختلال التوازنات الموجودة. هل الكلمةُ والقلمُ في الساحةِ الأدبيةِ تطورُ الحقيقةَ وجعلوها مضموناً وفكراً وحساً وسيكولوجياً لجميع المجتمعاتِ؟ القلمُ الموجودُ في هذه المرحلةِ هل لها القدرةُ على التغييرِ؟ هل الكلماتُ تؤثرُ في المجتمعِ ولها القدرةُ على التغيير؟ إنّها تساؤلاتٌ كثيرةٌ ومشروعةٌ.
باعتقادي أن المشكلةَ والقضيةَ الأساسية ليستْ بكثرةِ الأقلامِ والكلمات والكتابات، فقبل مائة سنة كانت طباعةُ ونشرُ أي كتابٍ صعبٌ جداً ولكن الآن يستطيعُ أي شخصٍ حسب مزاجه، وقلمه أن يطبعَ. ولكن إلى أي مدى يؤثر هذا القلم وهذه الكتابات والكلمات على المجتمع؟ أو بما معناه إلى أي مدى يستطيعُ الأدبَ أن يكون مصدراً للتغيير وأن يكون الجانب الأساسي لتطوير جميع أشكال المقاومة والنضال في حياة الشعوب والمجتمعات؟
إنّ الأدبَ والكتابات الأدبية مهمة جداً، والشعوبُ التي لا تملك الأدبَ الراقي لا تملك الثورة بكلّ جوانبها سواء الفكرية والعسكرية والاجتماعية. وبما أن الأدب هو الذي يظهرُ قوةَ القلمِ، وعظمةَ الكلمةِ وإبداع المعاني. فعلى الشعوبِ أن تمتلكَ ساحةً أدبيةً قويةً تعبرُ عن جمالياتِ، وأهدافِ، وأفكارِ ذاك الشعب.
ـ ماهي رؤيتك لتعريف أدب المقاومة؟ وهل ثمة فرق بينها وبين أدب الثورة “اصطلاحياً”؟
إنّ أدبَ المقاومة ليست متعلقة بمرحلةٍ تاريخيةٍ معينةٍ أو زمان محدد في حياة الشعوبِ، إذ يتصورُ البعض، وهم على خطأ أن “أدب المقاومة” لدى شعب ما، مرتبطٌ بمرحلة معينة كالثورة أو المقاومة التحررية الوطنية، وعند الوصول إلى النصر أو الحرية أو إلى الأهداف التي رسمت من أجلها تلك الثورات والمقاومة يزول هذا النوع من الأدب أو يختفي. فشعوب الشرق الأوسط على وجه الخصوص بأمس الحاجة إلى أدب المقاومة، لأن المقاومة لا تقتصر على معناها السياسي المتعارف عليها، ولكنها تشتمل على معانٍ أخرى من الاستمرارية وإثبات الوجود والعولمة الجديدة وإثبات الهوية الانسانية. فالأدبُ لا عمر محدد له، ومخطئ من يعتقد ذلك، وحتى لو وصلنا إلى أهدافنا وطموحاتنا في إقامة النظام الديمقراطي المنشود فلا ينبغي أن تتوقف أدب المقاومة، لأن المقاومة بجميع معانيها ومفاهيمها وأشكالها يجب أن تكون مستمرة على الدوام في المجتمعات الإنسانية.
أما أدب الثورة فيستند إلى الثورة الذهنية المستمرة بمراحل عديدة. وإذا كانت الرؤى المطروحة من خلال الأدب حديثة وجديدة فأنها ستكون أساس التغيير، كما أنها ستكون يافعاً وإبداعياً، ومن ناحية المضمون والمنطق ستكون لها فائدة كثيرة من أجل تكوين مجتمع إنساني ومتحرر وديمقراطي ومثقف إلى أبعد حدود.
ـ هل أدب المقاومة مرتبط فقط بمقاومة الاستعمار والاحتلال أو عدو مباشر، أم أن له أوجه متعددة كصراع الاستبداد والظلم والفساد والاستغلال الاجتماعي على سبيل المثال؟
كما ذكرتُ سابقاً فإن أدب المقاومة غير مرتبطة بمرحلة معينة، وإن كانت تغلب على بقية أنواع الأدب في مرحلة الاحتلال التي يتعرض لها شعب أو مجتمع ما، فتتعرض معظم الكتابات الأدبية للمقاومة وأحداثها وأبطالها. والسؤال المطروح هنا: هل يزول وينتهي مفعول أدب المقاومة في مرحلة ما بعد الاحتلال، وانسحاب وهزيمة الغزاة والمحتلين والحصول على الحرية والاستقلال؟
برأيي إن أدب المقاومة لا ينبغي أن يتوقف ويزول بتحرير مساحة جغرافية من المحتلين، بل العكس من ذلك لابد أن تستمر وتدخل في مرحلة جديدة تتمثل بأدب المقاومة على الصعيد الذهني والفكري. صحيح أن المستعمر أو المحتل يخرج من أرضك آنذاك ولكن لا بد من التوقف عند تفاصيل النظام الديمقراطي المراد تطبيقه في المجتمع المحلي، وكذلك مقاربات أو رؤى أفراد المجتمع بالنسبة لمفهوم الحرية. وهنا يأتي دور أدب المقاومة كعامل مساعد في شحذ همم أفراد المجتمع لمناهضة ومقاومة كل أشكال الاستغلال والاستبداد والظلم في حال ظهور أي بوادر منها في مرحلة ما بعد الاحتلال (مرحلة الاستقلال الوطني).
إن التعريف الصحيح لأدب المقاومة هو أدب إثبات وجود وهوية الشعوب والمجتمعات ومقاومة كافة أشكال الاستغلال والظلم، ومن أبرز وظائفها إظهار جوهر أو القيم الأخلاقية للمجتمعات. وأدب المقاومة في مرحلة الاحتلال تتسم بالتمرد والعصيان ورفض الواقع. وفي مرحلة ما بعد الاحتلال هناك أمور وظواهر عديدة يمكنها التوقف عليها، وهنا لا بد للأدب إجمالاً أن يخطو طريقين: الأول داخلي (تسعى نحو التطوير والتصحيح والبناء القويم والمعرفة.) والثاني خارجي (يتعلق بنظام العولمة الذي يؤثر ذاك المجتمع).
وننوه هنا إلى أن الاحتلال أو الاستعمار لها نوعان، الأول مباشر عن طريق استخدام القوة العسكرية المباشرة، وغير مباشر يتعلق بالأساليب والطرق المختلفة للإبادة الثقافية بحق الشعوب الأصيلة، كاحتلال الدولة التركية لمناطق في الشمال السوري وممارستها سياسات التتريك كفرض اللغة التركية والعادات والثقافة التركية على سكان تلك المناطق…
ومقصدي مما سبق أن الكتابة لها دور تاريخي وتأثير خاص في جميع المراحل، في مرحلة المقاومة ضد الاحتلال والاستعمار المباشر عن طريق القصائد والقصص والروايات والفن لأنها تتحدث عن جميع المقاومات والظلم الموجود في فترة الاحتلال والاستعمار، ولكن بعد التحرير وإحراز بعض النجاحات تكون مهمة أدب المقاومة أكثر صعوبة وهي إثبات وجود الشعب ثقافياً ولغوياً وسياسياً كنظام ديمقراطي وجميع الجوانب الموجودة فيها داخلياً وخارجياً، وينبغي عليها أن تسلك مختلف الأساليب والمجالات للوصول إلى أهدافها. فالكاتب يجب أن يكون واقعياً أكثر، وأت يمتلك قضايا كثيرة متعلقة بالمجتمع والشعوب والتاريخ والكون وجميع المسائل المهمة. وإذا كان غير ملماً بقضايا وأفكار شاملة لن يكون صاحب مصدر ومنبع لتكوين أدب المقاومة حتى في مرحلة التحرير وتكوين المجتمع من جميع النواحي.
ـ كيف ترين حضور أدب المقاومة في النتاجات الأدبية المحلية في شمال وشرق سوريا؟ وهل يساهم استمرار الاحتلال التركي لمناطق من الشمال السوري في تجسيد هذا النوع من الأدب؟
بدأتْ ثورةُ شعوب شمال وشرق سوريا كما تعلمون مع الأزمةِ السورية التي بدأت منذ 2011، وهي قبل كلّ شيء ثورة المقاومة، وثورة الوجود، والثورة الديمقراطية والحالة السلمية بين جميع شعوب المنطقة.
هذه الثورةُ التي بدأت بمقاومات كبيرة، وعظيمة تستحقُ أرقى مستويات الأدب والتي تتحول إلى أيقونات لمقاومات الشعوب، ولكن النخبة المحلية الموجودة والتي تصف نفسها بأنهم فئة من الأدباء والأديبات بشكل عام ما تزال كلاسيكية وفي قوقعة ضيقة جداً، وحتى أن معظمهم لم يفهموا بعد ماهية الثورة الموجودة ورقي مستوى هذه الثورة الذين هم موجودين فيها.
نعم هناك نتاجات ومؤلفات محلية كثيرة، ولكننا نلاحظ ضعفاً في الصياغة اللغوية وكذلك في المحتوى والمضمون، وهذا يشمل النتاجات الأدبية باللغات العربية والكردية والسريانية، ولذلك تحتاج لغوياً إلى تصحيحات، وفي نفس الوقت الرجوع إلى المصادر والقواعد اللغوية والتقنيات الأدبية.
ـ لطالما انتقد السيد “عبدالله أوجلان” الأدباء الكرد عموماً لضعف تأثير نتاجاتهم ومؤلفاتهم في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية وفي الثورة التحررية الكردية مثلما فعل بعض من الروائيين كتولستوي ودوستوفسكي من دور لافت في الثورة الروسية على سبيل المثال، داعياً إياهم إلى الالتفات إلى قضايا ونماذج وأبطال المقاومة واعتبارها محور نتاجاتهم الأدبية. كيف تلقف الأدباء الكرد هذا النقد من خلال تتبع الواقع الراهن للأدب الكردي ولاسيما في العقدين الأخيرين؟
بالفعل هناك أكثر من كراس وكتيب ومقالات وتحليلات للسيد عبد الله أوجلان أغلبها عن سوسيولوجيا المجتمعات ومنها عن واقع الأدباء الكرد، والانتقادات والأفكار والأطروحات ليست موجهة للأديب الكردي فقط وإنما لجميع الأدباء الذين بإمكانهم قرأتها وإدراك الغايات التي يرمي إليها السيد أوجلان في مساعيه للتغيير والتحول والتكوين من جميع الجوانب.
أود هنا التنويه إلى أننا كنا نطالع ونقرأ بشغف الكتب والروايات عن الثورة الصينية والفيتنامية والكوبية وكذلك الثورة الروسية كروايات مكسيم كوركي ودوستوفسكي وغيرهم، لأنها تحوي الحقائق الواقعية لتلك الثورات والشعوب، وكانت نتاجات مهمة جداً.
ولكن المشكلة كما أوضحتها في إجاباتي السابقة تتركز في الرأي القائل بأن النتاجات الأدبية تكون محددة بمرحلة معينة فقط وبعدها تنتهي، فمن المستحيل أن نتحدث عن نتاجات ثورية أو أدبية وتكون مصدراً لتغيير وتكوين تلك المجتمعات إن انتهت فكرة المقاومة في أذهاننا.
يشهدُ الواقعُ الكردي وخاصة في العقدين الأخيرين آلاماً ومآسي وتراجيديات كبيرةً، ولكن أين هو الكاتبُ الذي يجبُ أن يلتفتَ إلى هذه المواضيعِ؟! أين هو الكاتبُ الذي يكرّسُ حياته لأجل إحراز ذاك المستوى الأدبي للثورة وللوصول إلى الأدب الراقي لذلك المجتمع؟!!
أقرأ بعض الروايات إلا أنني لا أستطيعُ أن أفهمَ لمن ولماذا يكتبون!! يوجد خوف عميق وعدم الجرأة لكتابة الحقيقة، ونجد بعض الكتاب والأدباء الكرد ممن يعتقدون إن كتاباتهم حينما تكون عن الحقيقة ستنحاز إلى الجانب الحزبي.
إلا إنني أقولُ إن الشخص الأديب حُرٌ قبل كل شيء، يملكُ الحريةَ وليس تابع لأحد، فالأديبُ الكردي عليه أن يكون أديباً حراً شاملا كونياً إنسانياً، وعليه أولاً أن يكتبَ عن الواقع الذي هو موجودٌ فيه.
عندما نتابعُ الواقع الموجود الذي نحن فيه، نجد في روجهلات (شرق كردستان) وإيران إعدامات يومية بحق الوطنيين الكرد والإيرانيين، وفي شمال كردستان وتركيا يتعرض مئات بل آلاف من ألد السياسيين والوطنيين للاعتقالات والتعذيب والتهجير القسري. كما أن الهجمات التركية مستمرة على جنوب كردستان (مناطق هولير والسليمانية وقنديل) وكذلك على روج آفا وشمال وشرق سوريا، وهنا يأتي دور الأديب الكردي الذي عليه أن يحوي جميع هذه المواضيع والقضايا ضمن نتاجاته.
نحن الأدباءُ الكرد نملك قضايا الحرية والتحرير، وقضية الوصول إلى إظهار حقيقتنا، فكل هذه الآلام والمآسي والمجازر والهجمات العدوانية والاحتلالات المستمرة حتى هذه اللحظة في بلدنا، ولكن النتاجات الأدبية من القصة والشعر والرواية التي أتابعها وأقرأها أغلبها لا تحاكي الواقع المعاش. الكاتب موجود ضمن واقع مليء بالمآسي والمقاومات ولكن ضمن نتاجاته لا تجد أي كتابات شيقة ومؤثرة تتحدث عن هذه المقاومات.
هنا في شمال وشرق سوريا نجد حتى الجدران والحيوان والزيتون والأشجار والماء والأنهار والينابيع تقاوم، ولا يحتاج الأمر إلى شرح جميع هذه القضايا، ولكن مسألة الكتابة مسألة ضمير، الكاتب الكردي يكتب عن كل شيء ولكن لا يتلمس قضاياه والمقاومة الموجودة. في قلمه ونتاجاته الأدبية لا يتحدث شيء عن الواقع. لذلك فإن السيد أوجلان تحدث عن هذه القضايا الفكرية في الثورة التحررية الكردية، ولكن الأدباء الكرد لا يستفيدون من هذه التحليلات والكراسات والانتقادات التي حللها وبشكل واقعي. إذ تجدهم يبحثون عن الحقيقة خارج الواقع الذين هم موجودين فيها، ولهذا فإن ما يصدرونه من نتاجات لا يمكن اعتبارها أدبية وليست لها أي قيمة تاريخية، ربما ستجد طريقها للنشر ولكن دون أي فائدة مرجوة منها.
برأيي أن الأديب الكردي لم يصل إلى المستوى المطلوب لأن يكون قلم ولسان حال واقعه ومجتمعه وأن تكون نتاجاته أدبية تمثل أولاً الواقع الموجود والثورة الذي هو فيها.
ـ هل يمكن أن يصاب الأديب بهزيمة ذاتية يحوله إلى شخص عاجز عن إنتاج أدب “مقاومة” إيجابي، رغم أن من واجبه في سياق مواجهة الاحتلال أن يحث الجمهور – من خلال كتاباته – على المقاومة ومقارعة المحتل؟
يصابُ الأديبُ بالهزيمةِ والعجزِ عندما لا يعيش مع حقيقة واقعه على الدوام، بل يبقى ضمنها بالجسد فقط دون أن يحسها بداخله. فالأديبُ هو لسان حال واقع شعبه ومجتمعه، وينتج كتابات مبدعة حينما يرى ويسمع ويخفق قلبه ويتأثر بحقيقة الواقع المعاش، أما إذا كان غير متأثراً أو متجاوباً بمشاعره مع حقيقة الواقع فلا يمكنه الكتابة أو أنه سينتج كتابات فاشلة وغير مؤثرة. فهل يمكن إطلاق صفة الكاتب والأديب على من لا يقدر بكتاباته ونتاجاته أن يظهر مآسي وبطولات شعبه أو لا يقدر أن يفضح ويناهض ويحثّ على مقاومة المحتل الذي يدخل أرضنا ويدنس عرضنا ويهجر أهالينا؟!! فالأديب ينبغي أن يكون فيلسوفاً، ومتابعاً، ومبدعاً، وباحثاً على الدوام دون أي توقف.
الأديبُ العاجزُ هو الغافلُ عن حقيقةِ واقعه المعاش، ويضخم عدوه في نفسه، ولا يعلمُ عن حقيقةِ عدوه المحتل، ولا ينظرُ إليه حتى كعدو. فالجرأةُ والتمردُ والشجاعةُ هي صفاتٌ لازمةٌ للأديبِ الحقيقي والمبدع.
من الممكنِ أن يلجأ أي شخصٍ للكتابةِ ولكن إن كانت كتاباته شكلية ومضمونها لا يحتوي على أية صلة بالواقع فلا يمكنه أن يصبح أديباً ناجحاً، هو يعيشُ فراغاً بداخله، ولذلك لا يمكنه إنتاج أدب جاد وواقعي ومقاوم، فالكتابةُ مرتبطةٌ بالحقيقةِ والواقعية والوجدان والعدالة.
ـ هل تؤيدين نشر نتاجات ذات هموم شخصية وبعيدة عن الهم العام في الوقت الذي يتعرض فيه الوطن للاحتلال والهجمات المستمرة من الخارج؟
الكاتبُ الذي يحملُ نتاجات ذات هموم شخصية يخضع نفسه، ويعيش في غفلةٍ بعيدةٍ عن القيمِ الوطنية والاجتماعية والتاريخية والانتماء القومي والانتماء إلى وطنه وأرضه وترابه.
أحترمُ الكتابات ذات الهموم الشخصية لأن جميع المجالات في الساحة الأدبية والكتابية مباحة للكتاب، ولكن النتاجات البعيدة عن قضايا الوطن وخاصة الاحتلال والهجمات المستمرة من الخارج، وما يرافقها من المآسي والكوارث والمجازر والإبادات الجسدية والثقافية والفكرية والجغرافية والسيكولوجية على ذاك المجتمع أجدها لا يحمل أي ضمير ووجدان وبالتالي لا يمكن اعتبار ذاك الشخص كاتباً.
عندما نقولُ الأديبُ، والكاتب وقتها نقول هو الوطن والحقيقة والواقع، وإذا تحولَ إحساسُ وهمومُ ذاك الكاتبِ إلى شخصية وفردية وأنانية وبسيطة فلا معنى لتلك الهموم برأيي، لأن المسألة ليست فقط هموم الوطن بل هموم الإنسانية والكون وهموم جميع شعوب العالم خلال الأزمات.
ـ كيف ترين النشاط العام للمؤسسات الأدبية والثقافية واتحادات الكتاب والمثقفين محلياً، وهل تلحظين أدوار إيجابية لها في النهضة الفكرية والأدبية والثقافية في شمال وشرق سوريا؟ وهل ترتقي أنشطتها لمستوى التحديات المفروضة على منطقتنا؟
إنني أجد النشاط العام لكافة المؤسسات الأدبية والثقافية الموجودة وخاصة اتحادات الكتاب والمثقفين إيجابيةً، ولها دور في تطوير النهضة الفكرية والأدبية والثقافية في شمال وشرق سوريا منذ الثورة الجارية في 2012. هنا ينبغي أن يكون تقييمنا مقارنة بالظروف والأزمات المعيشية في المنطقة عموماً من أزمات عسكرية واقتصادية وأيديولوجية.
نعم أؤكد مرة أخرى على وجود محاولات وخطوات إيجابية حسب الظروف والأزمة الموجودة عالمياً وخاصة في سوريا، ولكن القضية الأساسية أو المسألة التي هي أساس المشكلة هنا هي في تعدد المؤسسات وكثرة الأشخاص – ربما يراها البعض خطوة إيجابية- وفي تدني فعالية ومضمون هذه المؤسسات وكذلك في ضعف تواصل وارتباط تلك المؤسسات مع أفراد ومؤسسات وهياكل المجتمع، فعلى تلك المؤسسات أن تضفي تأثيرها الفكري والأدبي والثقافي على المدارس والمعاهد والجامعات والبيوت والكومينات والمجالس وعلى جميع الأنشطة الموجودة في منطقتنا لأننا في حالة ثورة.
وباعتبارنا نعيش حالة ثورة، فعلينا أن نملك مقاومة عظيمة. الجانب العسكري والحماية موجودة، والجانب السياسي موجود، ولكن الجانب الاجتماعي والثقافي والأدبي هي أيضاً تحتاج إلى تطوير وتنويع وإبداع النشاطات لأجل التركيز على توثيق النهضة الفكرية والأدبية والثقافية بين جميع فئات المجتمع، فهذه الخطوة أجدها بالنسبة لشمال وشرق سوريا خطوة إيجابية وتاريخية عظيمة. ولكن في نفس الوقت لابد من الاهتمام والتركيز على جودة المضمون والجوهر. وإلى أي مدى تؤثر هذه النشاطات بشكل إيجابي على النهضة التي نحتاجها نحن كشعب سوري وجميع المكونات الموجودة…
أعتقد أنها بداية وخطوة جديدة وإيجابية ولكن يجب التنويع والإبداع والاستمرار في تطويرها إلى المدى البعيد.
ـ تنوعت نتاجاتك ومؤلفاتك الأدبية بين الرواية والقصة والشعر والسير الذاتية للغير؟ هل يمكنك إلقاء بعض الضوء على مؤلفاتك؟
لا أودّ القولَ إنني أحببتُ أن أكونَ أديبةٌ وكاتبةٌ عظيمةٌ، ولكنني منذ الطفولةِ تأثرتُ بكثيرٍ من الظروفِ السياسية والاجتماعية المحيطة بي جعلني أمسك القلم منذ السنوات المبكرة من حياتي، البحث والتساؤلات كانت دائماً ما تدور في نفسي ولذلك لجأت إلى الكتابة. ولم أكن أشعرُ يوماً بأني شبعتُ أو مللتُ من الكتابةِ، حتى أنني قلما ما أعجبُ بكتاباتي بل وكلما أكتبُ عن موضوع ما أدرك في قرارةِ نفسي أني لم أعطيها حقها في التعبيرِ والكتابةِ، وأنها غير مكتملة وأنه لا بدّ من الإضافة عليها وإتمامها.
بدأتُ حياتي الأدبية بكتابة القصائدِ الشعرية لكني أدركتُ فيما بعد أنها لم تعدْ تشبعُ همومي ومشاعري بالنظر إلى وجودي في المجتمع وتأثري بالواقع وتحولاته ومآسيه. فانتقلتُ إلى كتابة القصة والرواية والنثر أيضاً، وهكذا دائماً ما كنت أشعر بالظمأ الكتابي طوال مسيرتي الأدبية، فالكتابة تجري بداخلي دون توقف ودون أن تشبعني يوماً، لأني أعيشُ ضمن مجتمعي وشعبي أشاركهم أفراحهم وآلامهم مما يجعلني أتأثرُ بهم كثيراً. فبحكم عملي الإعلامي أتنقلُ كثيراً وأزور مناطقَ عديدةً، ففي مخيمات الشهباءِ، والتي يقيم فيها النازحون من أهلنا في عفرين وجدتُ بجانب كلّ خيمةٍ شجرة زيتون زرعها العفرينين تأكيداً لارتباطهم بأرضهم ووطنهم وصمودهم وعشقهم للحريةِ. وفي مخيم واشوكاني الذي يقيم فيه النازحون من أهلنا في سري كانيه وكري سبي زرت الكثير من العوائل في خيمهم، كلهم أجمعوا وأصروا على مواصلة الحياة والتدريب والتنظيم المستمر وإدارة أنفسهم من أجل العودة إلى مسقط رأسهم في سري كانيه وكري سبي. فكيف لا نتأثر بأحوال وآلام أهلنا وبكل هذه الآمال والنفوس المتعطشة للحرية!
ففي رواية (Çirrik) تطرقتُ من خلال شخصية الفتاة (كلناز) على واقع الوطن والثورة في السنوات العشرة الأخيرة، وعن الواقع المعاش. عن الحب والكره والوطنية والتعليم واللامسوؤلية …الخ. وفي ديوان (Guliyên Eşqê / ضفائر العشق) تحدثتُ عن بطولة وجمال المرأة المناضلة والمكافحة في تاريخ الكرد… وقد تأثرتُ شخصياً بتلك الكتابات لأنها تصور بكل واقعية بطولات ومآسي وحقيقة المجتمع الذي أنتمي إليه.
وهكذا فإنه كلما لامست الكتابات والنتاجات الأدبية حقيقة الواقع والمجتمع كانت درجة تأثيرها كبيراً في الأوساط المجتمعية. حينئذ لا تصبح تلك الكتابات ملكاً شخصياً للكاتب، بل ملكاً عاماً للمجتمع. كل فرد يرى ذاته فيها، ويستقي منها روح المقاومة.
ـ ماذا تكتبين الآن؟
انشغل حالياً بإعدادِ الجزء الخامس من سلسلة كتابي المعنون بـ (Rûpelên Jînê / صفحات من الحياة) بالكردية، وهي عبارةٌ عن قصصِ حياة الأمهات والآباء الوطنيين في روج آفا وشمال شرق سوريا.
ـ هل ثمة كلمة أخيرة في نهاية هذا الحوار؟
أوجه كلمتي في ختام حوارنا هذا نداء إلى جميع الكتاب والكاتبات في الساحة الأدبية، أقول لهم أنه علينا مسؤولية تاريخية في قيادة مجتمعنا وثورتنا من خلال الأفكار والإبداعات الأدبية، وهو ما يتطلب منا إرادة وجسارة وجرأة وتضحية كبيرة.
إن أدب المقاومة والثورة حاجة ضرورية، يحتاج إلى أن يكون قلمنا ونتاجاتنا الأدبية معبرة عن واقع المجتمع ولسان حاله، الكاتب له عمر محدد يعيشها في هذه الحياة وسيرحل عنها، أما نتاجاته الأدبية ستبقى خالدةً إن كانت مبدعةً وملامسةً لحقيقة واقعه ومجتمعه، وستصبح أيقونة تاريخية يستنير بها الأجيال القادمة.
ومثال على ذلك الكتاب الذي بين يدي وأقرأهُ حالياً، وهو كتاب الديكاميرون (الأيام العشرة) للمؤلف الإيطالي جيوفاني بوكاشيو في القرن الرابع عشر، هذا الكتاب يضم أكثر من 700 صفحة واستمرَ قرابة ثلاثَ سنواتٍ حتى انتهى من تأليفه، هذا ناهيك عن الصعوبات والظروف الصعبة التي لاقاها. ففي تلك الفترة كانت الأديرة والكنائس تلاحق الكُتاب وتحرق الكتب والمؤلفات. يتحدث الكتاب عن قصص واقعية عن حياة واقع مجتمع مدينة فلورنسا أثناء انتشار الطاعون الأسود. وقد ألف بوكاشيو هذا الكتاب بأسلوب إبداعي. عن واقع القرن المعاش فيه بكل تفاصيله. عن القرى والإنسان والفقر والإنسان الجيد والسيء والأديرة والكنيسة…الخ، لدرجة يدهش معها القارئ، ويدخله في تفاصيل واقع الزمان الذي عاش فيه المؤلف.
ما أريدُ قوله إننا في الساحة الأدبية نحتاج إلى أعمال وأيقونات أدبية خالدة، فالأشخاص لا يبقون خالدين، لكن النتاجات الأدبية والأدب الذي يكون على أساس الهوية والجذور التاريخية والواقع والحقيقة تبقى خالدة، والمثال على ذلك كتاب الأيام العشرة للإيطالي جيوفاني بوكاشيو كما ذكرته لكم ما زالت لها تأثيرها ورنينها حتى الآن رغم مرور كل هذه القرون. وفي تاريخنا الكردي أمثلة لأدباء ألفوا نتاجات خالدة كـ ملاي جزيري وأحمدي خاني (مؤلف ملحمة مم وزين)، وحتى أن نتاجات هؤلاء الأدباء يفوق تأثيرها على كل الأدباء الكرد في العصر الحديث، والسبب أنهم لم يكتبوا عن مما هو خارج واقعهم.
ما أعنيه أنه ليكن لدينا نتاجات أدبية عن كل المجالات، ولكن علينا أن ندرك أنه إذا لم يكن تلك النتاجات قيمة وخالدة في مضامينها ومحتواها وأهدافها فأننا بذلك نضحك على أنفسنا وغير جديرين بحمل صفة الكاتب والأديب، وحينئذ لن نلقى إلا سخرية من التاريخ.
ما أقولهُ أخيراً. إننا نحتاجُ إلى نتاجاتٍ وأيقونات أدبية خالدة، ليكون واقعنا ومقاومتنا خالدة، من أجل التاريخِ ومدى القرون المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- نُشر الحوار في العدد (17)- شتاء 2023